الاثنين، 2 نوفمبر 2015

مجلة السنونو ( العدد الثاني ) - نقد - الشاعر نبيه سلامة 1908-1994 ( سميرة رباحية طرابلسي )

مجلة السنونو ( العدد الثاني ) - نقد
الشاعر نبيه سلامة 1908-1994 ( سميرة رباحية طرابلسي )

تعدّ تجربة الشاعر نبيه سلامة تجربة رائدة في المهجر الجنوبي (سان باولو ـ البرازيل) فشاعرنا ابن حمص نما وترعرع في بيئة أدبية خالصة. فأخوه الدكتور عارف سلامة أديب وشاعر معروف، وعمه المعلم حبيب الذي يعدّ واحداً من أهم أركان الحركة الأدبية في حمص (1). وعمته الأديبة سلوى سلامة أطلس صاحبة مجلة (الكرمة) التي تعدّ الرائدة في خطبها البليغة المتعلقة بتحرير المرأة، وابن عمه المعلم والصحفي محرز سلامة صاحب المطبعة المشهورة. في هذه البيئة شبَ نبيه وترعرع في أحضان حمص، اغترب عنها وذاع صيته في المهجر، فقد لذعته جمرة الغربة وعملت على إضاءة شخصيته التي شعّت بيننا حضوراً بهياً أثرت الشعر المهجري بقصائد فياضة من اللوعة والحنين.
وفي معرض حديثنا عن مسيرته الأدبية نراه مسكوناً بهاجس الوطن ليبحر إلى عوالم الظروف الاجتماعية القاهرة التي كرّسها الاستعمار في بلده، فتشع عبر هواجسه الوطنية رؤيته الشعرية التي سبقتها موهبته الصحافية في مراسلة جريدتي ألف باء الدمشقية ولسان الحال البيروتية.
وبقصدية وإصرار عرف كيف ينمّي موهبته الشعرية حفظاً ونظماً بمطالعاته واجتهاده لامتلاك ناصية القوافي ليؤكد لعارفيه "أن الشعر خوالجٌ متطايرة من القلب وأقباس متوهجة في الخيال"(2) وأنه التعبير الموحي عن تجارب نفسه وانفعالات وجدانه ومعاناته من الظروف الاجتماعية القاهرة في بلد محكوم بسياسة استعمارية ظالمة تكرّس الطائفية والتخلف، فتشحنه هذه الظروف بألم يشعّ من قصائده كالمنارة في إزكاء روح الوطنية قائلاً:
هبّوا انهضوا يا قوم طال سباتكم         والموت منا بات قيد  ثوان
واسترجعوا شرف البلاد وعزّها         لا تتركوها طعمة  النيران
 

الاغتراب والعالم الجديد

            اعتلّت روح نبيه المرهفة وتصدّعت نفسه الحسّاسة من سوء الأحوال الاجتماعية والسياسية فانسلخ من جذوره راحلاً إلى بلدان قصية طمعاً بحرية أوفر حاملاً في جبعته ثقافته الحضارية وشيم العربي الأصيل الذي يحفظ العهد، فنراه يقسم لرفاقه ومودعيه أنه سيعود:
          مغنى الأماني بما في النفس من أملٍ      ما عشت لا أنثني عن نهجك الهادي     
         آليتُ ألاّ أعيش العمر  مغتربـــاً      لا يعدلُ الخلد عندي أرض أجدادي
          وفي العالم الجديد الأكثر رحابة، وجد نبيه الأجواء الصحّية المليئة بالحرية والاطمئنان التي تغذي الأماني، فاستقرّ في مدينة (سان باولو) واشتغل بالصحافة والتجارة ولكن الطبيعة لم تكن سخية على شاعرنا الذي لم ينل حظاً وافراً من الغنى في بلاد الغربة التي كابد فيها الصعوبات، إلا أنها لم تبخل عليه بالمزايا التي خلقت منه "شاعر العروبة في البرازيل، وملقن الفصحى المعتمد(3) " بعد أن التقى مع كوكبة من شعراء المهجر الجنوبي وشكّل معهم حلقة ثقافية كان التعبير الأدبي وسيلتهم الوحيدة للتواصل، وكان إنتاجهم يستقبل بحماس في الوطن الأم، مما ساعد نبيه أن يزداد تعمقاً وتوسعاً في
اهتماماته الشعرية ولقطاته الفنية البارعة ليصبح الطائر المغرّد والرسول الأمين للجالية ولسانها الناطق المحافظ على الحرف العربي عن طريق عمله الصحافي الذي امتزج مع نسيج حركة الإنسان اليومية على أرض الوطنين المقيم والأم . وانطلاقاً من وهج صلاته العاطفية وصوته الوطني الصارخ الذي أطلق لديه موهبة الإبداع، استطاع أن يُغْني مخزون الشعر المهجري لأمته وهي مستعبدة وأشاد بها وهي مستقلة داعياً الشعب العربي لتناسي الكبوات وللتحرر من التبعية في توحيد الصف العربي.   
          ويتابع عبر شعره الوطني الذي جعل قلبه جزءاً من قلب الأمة ينبض بشرايينها ويصرخ لأوجاعها آخذاً صورة الكفاح ضدّ النكسات وردّ فعل ملتهب لقضاياه العادلة خاصة نكسة حزيران التي آلمته:
          كحلّتُ عيني بالرمـدْ                           كي لا أرى حولي أحدْ
          كي لا أرى شعباً يفرّ                            من التحرر للصفــدْ
          وعلى الرغم من الآلام التي اعتمرت في صدره... كان الشرق طاقة نور تضيء جانباً من وجدانه وحياته، فنرى كوة النور هذه تبعث في داخله الأمل بالشباب العربي والمستقبل القادم.
          ويتراءى دائماً شبح القدس الحبيب الذي كان يتراقص أمام شاعرنا كطيف شاعري حلو وكرمز من رموز الانتماء الديني المقدس، حوله شبان ساروا في موكب النضال:
          في حنايا القدس الشريف شبابٌ                 يتمشّى إلى العلى استشهـادا
          وتداعي إلى الممات رجــالٌ                 علّموا الناس بالممات الجهادا
          وكم من مرة تأججت نار الحنين بين الضلوع لموطنه ولعاصيه.. ولخلانه وعارفيه. وراحت أشباح الذكريات تنثال عليه عذبة حيناً... ومرّة قاسية حيناً أخر:
          تذكرت حمصاً فاستهلت مدامعي          حنيناً إلى رهط الصحاب الأوائل
          يعانقها العاصي عناق متيــم            ويوردُ ظاميها أحبُ  المناهــل
          وفي سان باولو حاضرة الجالية العربية بمؤسساتها الثقافية والاجتماعية الرائدة، وبشخصياتها العربية المثقفة البانية أجمل الأوابد الحضارية، كان نبيه يحسُّ بأنه جزء لا يتجزأ من المنظومة الاجتماعية فيها، يتمثل قيمها وأفكارها بوجدانه، ويعبر عن أحلامها واحتفالاتها التي تحفّز خياله بقصائده وكتاباته الصحفية البليغة النابعة من وهج قلبه ومن قريحته الفيّاضة بريشته المعبرة ما يجيش بصدره من مشاعر الصدق والحنين، بشعر يتميز بقوة في الأسلوب، ورقة تجعله يتغلغل إلى وجدان المستمعين من أبناء الجالية المتعطشة للأدب الساغبة للوطن التي تنهل من الطلّ الناتج عن جنان أدبه وشعره.
          ويغني أساه من وهج انفعال في النفس وإحساس في القلب ما يجيش بصدره من المحبة لخلانه يترجم ما قدمته أياديهم البيضاء للجالية شعراً ينبض بصدق الكلمة، ورهافة الشعور، وفي قلبه أحزان تتفجر يرثيهم من قبس إلهي. فكتب عشرات القصائد يرثي فيها أصدقاءه المخلصين والشعراء أمثال: حسني غراب، نصر سمعان، نظير زيتون والمناضل الكبير سعد زغلول الذي رأى في رثائه شموخ العربي المناضل من أجل حرية أمته قائلاً:
          ولئن طوى الموت المحتّم جسمه        فالرسم نصب عيوننا نُبقيه
          ما مات من يسعى ليبعث أمـة         ففعاله بين  الورى  تبقيــه
 

موقفه من المرأة

          وحكايته مع المرأة كانت مدعاة للاهتمام بمزيد من إنتاجه الشعري المنبثق من وجدانه ومن سبحاته الذاتية النقية ومن حالات التعبير عن النفس بتفاعل حيوي الإيقاع إسوة بالشعراء الرومانسيين، فأجاد في التعبير عنها كونها أماً وحبيبة وبانية أجيال، وهي الرقة والصور العذبة المشرقة الصافية.         
          ويسبّح الشاعر في عوالم إبداعية راقية، وتراكيب وصور أكثر خصوبة مستقرة في قلبه. ألا تراه يقول عن فتاة أسرته بأسلوب طلي:
وفتاة جرعتني                     الحبّ يا نِعمَ الفتاة
          حولت طيشي لرشدٍ                وسكوني لحيـاة
 

في حضن الوطن

          طالما غنى نبيه وطنه وهو يزداد حنيناً مع الأيام، ومع كل نسمة تهبّ من الشرق تزيد من لواعجه وذكريات وداعه له عام 1935 إلى أن تحقق حلمه وعاد إليه زائراً عام 1971 لتطأ قدماه مرابع طفولته، ويتذكر مساكن خلانه، وقد أثلج صدره التقدم العمراني والاقتصادي في ظل استقرار سياسي ينعم به الأفراد، لترتقي هذه الصور بمكنوناته إلى فلسفة من الإبداع والجمال تثلج صدره وتعتز به البلدان.
          وما حمص سوى بلد فريد            على خطواته البلدان تُبني
          وأثلجت صدره الندوات التي انعقدت مع صحبه في أمسيات حمص الظليلة على ضفاف العاصي فتغنوا بشاعرها ديك الجن وبطاحونتها المشهورة. 
          ولعلّ أمتع الندوات أيضاً ما تم في منزل الأديب يوسف عبد الأحد في دمشق بحضور الشعراء: رفيق فاخوري ومحي الدين الدرويش ورضا صافي. كانت أمسية حلوة بحضورها، ممتعة بقطوفها، فيها تبادلوا الأنخاب بالكلام العذب مدللين على افتتان الشعراء بالكلمة الصادقة التي تمنحهم العزم والشباب والتألق، مرحبين مهللين بالشاعر المسكون بالوطن مع كل نغمة صفصافه، ورفة ميماسه، وضوع عبق ياسمينه فوقف مرتجلاً:
          نفضت عني الأسى والسّن والصبا          وعدت طفلاً على مرج النعيم حبا
أرى السنين كأمواج  محطمـــة         كأنّ من يحمل الستين ما تعبــا
وفي ليلة بالغة العذوبة والأنس تبارى الأدباء بالشعر الأخاذ الذي يترجم ما يختلج في النفوس وما يعبق من الوجدان. تراءت الصور الفنية كالغادة التي ترنّ بخلاخيلها، وموسيقى الأذن وسحر العين يزيد من رونق هذه السهرة الفياضة بالأنس والمحبة، فقرّبت بين القلوب وغسلت شجن البعاد لتحيله في لحظة أخّاذة من الاتحاد والذوبان مع الآخرين فيصيح بملء فيه:
خذوني قبل أخذ الروح منّي                كفاني ما أكابد بالتمني (4)
حملت من البعاد هوى ملحاً                 فمنذا يرفع الأثقال عـني
وقد ظل الشاعر نبيه مخلصاً لعمله الصحفي مراسلاً لجريدة حمص، ولكن ريشته توقفت عندما دخل في صراع مع الكهولة وفي صمت لشحًّ في نور عينيه.
انقطعت وشائجه مع العالم الأرضي عندما غرز القدر المحتوم خنجره في مشعل النور فانطفأ نبيه سلامة الشاعر والصحفي مودعاً أرضه وواهباً شعره في ديوانه "أوتار القلوب" وقصائده المتناثرة المتضمنة مبادئه التي تمثلها وجدانه، مُثلاً وطنية عليا، مصوراً الوطن بمروجه وشطآنه.. بهزاره وصباياه... بمآسيه وأفراحه. وكأن ايليا أبو ماضي كان يقصده في هذا الشعر:
يبكي مع النائي على أوطانه          ويشارك المحزون في عبراته
هو من يعيش لغيره ويظنه           من ليس يعرفه يعيش لذاته
ويظل إنتاجه ذا مكانة كبيرة في تاريخ الشعر المهجري إسوة "بانتاج شعراء الجنوب عموماً الذي يمكن أن يعدّ صيغة جديدة للمدرسة الكلاسيكية المحدثة" (5)

(1)  وهم حبيب سلامة ـ داود قسطنطين الخوري ـ يوسف شاهين.
(2)  محي الدين الدروش ـالعروبة العدد 2212/19/9/971/
(3)   نعمان حرب ـ الثقافة الأسبوعية السنة 37/العدد15/ 23-4-94
(4)  أبيات الشعر من ديوانه أوتار القلوب
(5)  سلمى الخضراء الجيوسي/ الاتجاهات والحركات في الشعر العربي الحديث ج1 ترجمة د. عبد الواحد لؤلؤ ص 109.
 

 
WEBMASTER : AA-ALSAAD
This Web Site Programmed and Written By ABD ALMASSIH JAMIL ALSAAD ..... Copyright 2003 (C) SCOPNET  All Rights Reserved 

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق