مجلة السنونو (
العدد الثاني ) -
من تاريخ الاغتراب
|
بائع "الكشة" ( اسماعيل الصغير )
|
بائع "الكشة"حلم رومانسي ألهم كتاباً ودخل حكايات الأطفال الأميركيين
لم
تكن الأحياء التي سكنها المهاجرون "غيتوهات" ولاجزراً معزولة، وقلما رُفعت حواجز
ذات مضامين عرقية أو دينية أو أيديولوجية ضد الحضارة الأميركية أو الأميركيين، حتى
المحافظون والمتحفظون نادراً ما عزلوا أنفسهم... في مرحلة أولى تعامل الأميركيون مع
المهاجر السوري اللبناني ـ التاجر الجوال ـ كظاهرة عابرة، لكن إصراره على النجاح
حوّله إلى جزء من الحياة اليومية الأميركية. لم يتقبله الجميع بنفس الدرجة، السياسي
المحلي رأى فيه صوتاً انتخابياً جديداً، فسعى لكسب ودّه، والتاجر المقيم اعتبره
منافساً له، وما بين الموقفين اختلفت نظرة المواطن الأميركي العادي إليه، فتدرجت من
المعاداة المكشوفة أحياناً، إلى العطف والمساعدة والنصيحة، لكن نادراً ما وصلت إلى
التمييز العنصري القائم على العرق أو الدين...
عندما تثير جماعة ما اهتمام الأِعلام والأدب في أي بلد، فهذا يعني أن هذه
الجماعة بدأت تشكل ظاهرة جديدة حيث حلّت.
في أواخر القرن التاسع عشر، كانت الروابط الاجتماعية بين المهاجرين
وجيرانهم الأميركيين هي في حدود علاقات العمل، لكن من وقت لآخر، كان سلوكهم مدعاة
لفضول الأميركيين. إن مشهد مظاهر حياة أسرهم وجماعتهم الفائضة في الشوارع المجاورة
الأميركية الكبيرة والصغيرة، وكأنهم مازالوا في قراهم، قد استثار فضول الصحافيين،
فدأبت الصحافة على تقديم صفحات إلى قرائها، حول حياة هؤلاء المهاجرين... ففي العام
1892 كرست "نيويورك ديلي تريبيون" صفحة للحديث بصورة مفصلة عن عادات وأدوات المعمرة
التي يسكنها المهاجرون. وفي العام 1897 قدم صحافيون من "سيدار رابيدز" في "ايووة"
ومن "ديترويت" في "ميتشغان" إلى قرائهم، أوصافاً زاهية عن المعمرات الجديدة للباعة
المتجولين، الذين يعيشون ويعملون بينهم.
واستمرت هذه المقالات تصدر في الصحف الأميركية عن التاجر اللبناني حتى
ما
بعد 1900، عاكسة بذلك اهتمام المجتمع الأميركي بهذه الظاهرة، سلباً أو إيجابا...
ففي سنة 1901 أوردت "سيدار رابيدز غازيت" سرداً لوقائع رفع عريضة إلى وجهاء
المدينة، ضد هؤلاء المهاجرين "كي يتولوا أمر عنصرهم الغريب" بسبب "النفور من أساليب
الأجانب".
ويروي فارس. ن. حادثة اعتقال الشرطة لأربعة من المهاجرين في "رابيدز"
بناء على شكوى من جيرانهم "لاسترخائهم عند باب دارهم في ثياب النوم، وهم يدخنون
النارجيلة، ويحتسون العرق في آخر النهار، كما هي عادتهم في القرية. ولم يطلق سراحهم
إلا بعد أن تفهّم الشرطة من الموزع أن "القنباز" أو "الدشداشة" هي في واقع الأمر زي
وطني يلبس عادة خارج الدار".
لقد كانت الفروق الحضارية والاختلاف يؤديان إلى كثير من مثل هذه الحوادث،
لكن الأمور لم تكن تصل إلى حد التمييز العنصري ضد المهاجرين، فقد نظر الأمريكيون
إلى جميع الغرباء باعتبارهم قوماً واحداً أكثر منهم أقواماً من حضارات وخلفيات
مختلفة، ولا يكنون كل العطف للأجانب.
رعايا أتراك
إن
المهاجر اللبناني السوري الذي استطاع أن يتميز بتمثله السريع للحضارة الجديدة، دفع
في بادئ الأمر ثمن الخلط بينه وبين أقوام آخرين. فقد خلط الأميركيون بين الأتراك
وبين المهاجرين القادمين من سوريا وفلسطين ولبنان، فكان كل هؤلاء، في نظر الأميركي،
أتراكاً... ولأن الأتراك ارتكبوا مجازر ضد الأرمن، ولأنهم حاربوا أميركا إلى جانب
ألمانيا، لهذا كان الأميركيون يحسون نفوراً خاصاً حيال كل ما هو تركي، وأنسحب هذا
النفور على اللبنانيين باعتبارهم رعايا أتراك، فساهم بذلك مزيج من الوطنية والهوية
المغلوطة في خلق المواقف المعادية، التي لم تتحول إلى ظاهرة واقتصرت في معظم
الأحيان على سلوك فردي، تمظهر في إطلاق بعض التسميات العنصرية على هؤلاء المهاجرين.
ويتّذكر نجا.هـ . "كانت والدتي بيضاء اللون، وكانت ترتدي مثل الأميركيات،
وكنا نتنزه في أمسيات السبت حتى قبالة مجلس البلدية في فورت واين، حيث كانت تقام
حفلات موسيقية، وبطريقة ما كانوا يكتشفوننا وينادوننا " داغو" ما كانوا يعرفون
أننا أولاد عرب... إن الأميركيين سموا السوريين "داغو" أو "براقين". لم يكونوا
يعرفون الفارق بين السوريين واليهود، ويسمون جميع الذين يبيعون "براقين".
وخفف من سلبيات هذا الموقف أن اللبنانيين والسوريين الذين كانوا يعرفون
بـ "السوريين" عموماً، كانوا يدركون إنهم غير معنيين مباشرة بمثل هذه التسميات،
وإنها لا تنعكس على اصولهم. ويقول فادي ألس: " لم نلقِ بالاً إلى ذلك قط. كنا نلقي
به خلف ظهورنا فقط ".
ومع تعمق المشاعر الوطنية في العشرينات من القرن العشرين، كان اللبناني
المهاجر قد تحول إلى مواطن أميركي، ولم يعد أطفاله يكتفون بإلقاء هذه النعوت "خلف
ظهورهم فقط"، بل صاروا يسوون حساباتهم بقبضاتهم في باحات المدارس والشوارع، تماماً
كما يفعل الأطفال الآخرون.
"البائع المتجول الضاحك"
لقد بدأ يحدث ذلك عندما صار البائع اللبناني المتجول وجهاً مألوفاً في
المجتمع الأميركي، وفرداً له حقوقه، لكن له ميزاته التي لفتت إليه وسيلة الإعلام
والأدب على السواء. ففي عام 1911 استولى هذا الجوال على مخيلة الكاتبة "لوسيل
بالدوين فان سلايكة"، التي صورته بصورة رومانسية نوعاً ما، ولفّته بالأسرار
الشرقية. ففي قصتها القصيرة التي تتحدث فيها عن شابة اميركية في مزرعة "نيوها مشاير"،
تصف مظهره الطريف، ولباقته، ولهجته الحلوة، وسلعه المغرية.
وتحكي الكاتبة كيف بدأت أميلي، التي لم تعبر حدود ولايتها، تتعزى بنتف
الأنباء المفرحة، التي يحملها هذا البائع إليها، عن موطنه وعن حياته الشرقية
الباهية الألوان، وكيف صارت تعيش في حلم يقظة دائم، عندما لم تعد البلدان الأجنبية
بالنسبة إليها، مجرد بقع على خارطة، بل أماكن يتحرك الناس فيها ويعيشون.
وحين يرحل، مثلما جاء بصورة غامضة، يترك لـ اميلي كلمات تتعزى بها "وأنت،
هناك شيء تتعلمينه مني، وهذا ما أعرفه من الكآبة في عينيك البنيتين الواسعتين. وهذا
هو الشيء الذي يجب أن تعرفيه، أن الرغبات ليست أشياء عاطلة، بل هي يرسلها الله
ليخلص القلب."
وتتذكر "أليس كرايستغو" من طفولتها في مزرعة في مينيسوتا "بائعاً متجولاً
ومحبوباً"، كان يأتي غالباً إلى باب الدار، وقد خلدته في كتاب حكايات للأطفال تحت
عنوان "البائع المتجول الضاحك".
وتصف لنا الكاتبة في واحدة من تلك الحكايات كيف يتلازم جو من التوقع مع
ظهور خيال البائع يوسف فوق المرتفع، حيث كانت الطريق الكبيرة تلتقي بدربهم الصغيرة.
وحين يتجاوز علبة البريد يهتف واحد من العائلة، سيدني، "اعرف من هو، أنه البائع
المتجول الضاحك". وتتألق الوجوه في المطبخ، وتسترق الأم نظرة سريعة إلى المرآة،
وتمرر يدها على شعرها.
لقد اختلفت الصورة الآن، فيوسف لم يعد ذلك البائع المتجول الذي يضطر إلى
قطع عشرات الأميال، بحثاً عن مكان يقضي فيه ليلته، أو زائراً يرتاب فيه المزارع
فيطلق نحوه الرصاص ثم يسأله عن حاجته! صار زائراً تنتظر العائلة عودته، يبدد رتابة
عزلتها بذكائه وفطنته، وهو الحكيم الودود والمحب، وهو الذي ينقذ ببطولة حياة ولدين
من أسرة "ميلر"، ضاعا قي العاصفة.
وتتحدث الكاتبة "مود هارت لافلاس"، التي نشأت في "مانكاتو" في "مينيسوتا"،
في كتاب لها للأطفال، عن فتاتين تتعثران قريباً من مستوطنة للمهاجرين، قبل الحرب
العالمية الأولى، وتصف كيف ترتبطان بأواصر الصداقة مع ابنة بائع جوال هي حفيدة أحد
الأمراء.
إن مثل هذه الصور عن البائع المتجول، تثبت حضوره الثابت في حياة الأميركيين، حيث
شكل جزءاً من حياتهم اليومية ومن ذكرياتهم التي كانت.
وعندما يصبح كائن ما شخصية نمطية في روايات الأطفال، فهذا يعني قرب هذه
الشخصية من القلوب الصغيرة، التي تعرف كيف تكره وتحب من دون مجاملة، ومن دون حاجة
إلى قوانين تشرع لها هذا الحب، وهذا يعني أن الجوال لم يحمل معه "كشته" فقط في
الدروب الأميركية، بل اصطحب قلبه وتراثه وإنسانيته، فأحب وتكلم بالحكمة ولم يتردد
في اقتحام العاصفة كي ينقذ حياة طفل، وهي الصورة التي احتفظ بها أدب الأطفال
الأميركي.
المشادة الآسيويةمع فيضان المهاجرين من أوروبا الشرقية والجنوبية ومن شرقي البحر الأبيض المتوسط، عرفت أميركا تصاعداً في العداء والرفض لبعض الجماعات، وانعكس ذلك في القيود التشريعية، التي تنظم مسألة الهجرة والتجنس. وكان لابد من أن يطال ذلك اللبنانيين. ففي 1905ـ 1914 كان عدد السوريين واللبنانيين المهاجرين يتضاعف سنوياً، وكان جلدهم الأسمر الزيتوني وعيونهم السوداء وشواربهم العريضة تفضح أصولهم غير الشمالية. لقد ناسبوا تلك الصورة المصحفة التي صنفتها النظريات البيولوجية والعلمية الكاذبة، والتي اعتبرتهم أنماطاً يمكن أن تمزق النقاوة العرقية وتضعف عصب الأمة الأخلاقي. وفيما كان نفور الأميركيين الأصليين يتناول جميع المهاجرين غير الأنكلو ـ سكسونيين، فقد تركز بصورة خاصة على بعض الفئات كالإيطاليين والصينيين والأتراك أكثر منه على سواها، كما كان أشد حدة في بعض أقسام البلاد كالجنوب، وبعض المراكز والبلدان الريفية، منه في غيرها. ولعبت مسألة اللون دوراً هاماً في التمييز، فقانون 1870 للجنسية اعتبر كل الغرباء الذين ليسوا من مولد أو سلالة أوروبية، ليسوا أشخاصاً بيضاً، وأبرزت قوانين الجنسية الصادرة ابتداء من العام 1906، والتي تحدد صلاحية المواطنية، مشكلة العرق بالنسبة للجماعات غير الأوروبية، وازدادت المشكلة التباساً حين استخدم قانون 1870 معدلاً من حيث هو أساس إضافي لتحديد هذه الصلاحية، ففيما قرر القانون أن البيض الأحرار والغرباء من الذرية الأفريقية، يستطيعون تقديم طلبات للتجنس، فقد تغاضى عن تعريف الأبيض، تاركاً تأويل العبارة لرأي الأفراد الذاتي في المحاكم. وفي سنة 1910 أصبح المهاجرون القادمون من شرقي البحر الأبيض المتوسط غارقين مباشرة في مشكلة العلاقة المختلف عليها بين الأصل القومي والتجنيس، عندما صنفهم مكتب الإحصاء كآسيويين، وكان ذلك مدخلاً لحالات تمييز ضدهم، وبذلك عرفت المحاكم الأميركية عدداً من القضايا حول مسألة عدم صلاحية هؤلاء المهاجرين للحصول على المواطنية، كان أشهرها قضية المهاجر اللبناني كوستا جورج نجور، حين أنكرت عليه المحكمة سنة 1909 صلاحيته هذه، بوصفه أحد رعايا السلطان العثماني المولودين في آسيا وبوصفه شخصاً غير أبيض.هجرة انتقائيةلقد خاض المهاجرون اللبنانيون والسوريون هذه المعركة، فسخروا لها
المقالات في الصحف، وجمعوا الأموال للصرف على استئناف مثل هذه الاحكام...
وفي جلسة إعادة الاستماع لدعوى كوستا
نجور في كانون الأول 1909، نودي بالسوريين ومن بينهم اللبنانيين، اناساً بيضاً،
بمعنى تعديلات قانون التجنيس لعام 1870، وتقرر أن مكان الأصل لا علاقة له بالعرق.
وفيما اجيز استدعاء نجور، فإنّ المسألة العرقية لم تحل، ونشرت الصحافة العربية في
أميركا تقارير عن عدد من حالات الرفض في الولايات الجنوبية والغربية والوسطى، وبين
1909و 1914 استؤنفت ثلاث حالات أخرى، وربحت في هدوء في "ماساشوسيتس" و "أوريغون" و
"كارولينا" الجنوبية، وكان من الظاهر أن المحاكم كانت واقعة تحت تأثير ما كان
يُعتقد أنه شعور الأمة المؤيد لتشريع الهجرة الانتقائي.
ولم تحل مسألة المشادة الآسيوية بصورة جازمة إلا بعد العام 1923، ومع
القانون الصادر سنة 1917، الذي اسقط كل الحواجز في وجه اللبنانيين والسوريين كي
يحصلوا بصورة طبيعية على حق التجنيس.
وبينما كانت المشادة الآسيوية تدور في الولايات المذكورة أعلاه، كان
اللبنانيون والسوريون يحصلون على الجنسية بصورة روتينية، بحيث أصبح عدد المتجنسين
في العام 1920 حوالي 41% أو 22583 شخصاً من أصل السوريين واللبنانيين المولودين في
الخارج، وفي العقد التالي ارتفعت هذه النسبة إلى 8و61% أي 39129 نسمة. وفي هذه
المرحلة كان هؤلاء المهاجرون ينتقلون إلى مرحلة بناء المؤسسات وتشكيلها، لا بوصفهم
مهاجرين، بل كجزء من المجتمع الأميركي.
|
WEBMASTER : AA-ALSAAD
|
This Web Site Programmed and
Written By ABD ALMASSIH JAMIL ALSAAD
..... Copyright 2003 (C) SCOPNET All
Rights Reserved
|
رابطة اصدقاء المغتربين تأسست عام 1973 وكانت رأيستها الاديبة الراحلة نهاد شبوع وتم اصدار 12 عدد فقط في بيت المغترب في حمص .
الاثنين، 2 نوفمبر 2015
مجلة السنونو ( العدد الثاني ) - من تاريخ الاغتراب - بائع "الكشة" ( اسماعيل الصغير )
الاشتراك في:
تعليقات الرسالة (Atom)
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق