الأحد، 15 نوفمبر 2015

مجلة السنونو ( العدد السابع ) - فن ونقد - قراءة غير نقدية للشاعر يوسف الصائغ ( يوسف الحاج )

مجلة السنونو ( العدد السابع ) - فن ونقد
قراءة غير نقدية للشاعر يوسف الصائغ ( يوسف الحاج )
 
قراءَة غير نقديَّة للشاعر يوسف الصائغ
"في قصيدته: أَما كانَ يمكنُ؟"
يوسف الحاج
          خُيِّلَ لي قبل الشروع بالكتابة عن الأَديب: يوسف صائغ في الجانب الشِّعريِّ من إِبداعه المتعدِّد، أَنَّ القابضَ على الشِّعر كالقابض على السَّرابِ أَو الجمرِ ليزدادَ الهجيرُ لظَّى وحرقةً ولوعةً... فتنفتحُ الرُّؤية على الرُّؤْيا وتتجلَّى الصورة التي يخرجُ بها الجوهرُ إلى الظُّهورِ، والصُّورةُ من إبداع العقل، والحسُّ عاملٌ من عمَّالِ العقل. والفرق بين الصورة الإلهيَّة والصورة العقليَّة أَنَّ الصورة الإلهيَّة تَرِدُ عليكَ وتأْخذ منكَ تخطفكَ إلى عالم الرُّوح، عالم الوحي والإلهامِ... والصورةُ العقليَّةُ تصلُ إِليكَ فتعطيكَ، الأوُلى بقهرٍ وقدرةٍ، والثانية برفق ولطافة، وتلكَ تحجبكَ عن لِمَ وكيف، وهذه تفتحُ عليكَ لِمَ وكيفَ. وأَنوارُ الصورة الإلهيَّة بُروقٌ تمرُّ، وأَنوار الصورة العقليَّة شموسٌ تستنير؛ وتلكَ إذا حصلتْ لكَ بالخصوصيَّة لا نصيبَ لأَحدٍ منها، وهذه إذا حصلت لكَ فأَنتَ وغيرُكَ شرَعٌ (1) فيها، وتلكَ للصَّون والحفظ وهذه للبذل والإفاضة. أَليس الشِّعرُ فيضاً وسيلاناً في لحظة الكتابة؟ وإِذا أقتربَ الإِبداعُ من التَّمام رسم بلوغَ النصِّ الحدَّ الذي ما فوقه إِفراطٌ وما دونه تقصيرٌ!.
          في هذه المنطقة البرزخيَّة ينتجُ يوسف صائغ وسعدي يوسف ومحمود درويش وأَحمد عبد المعطي حجازي النصَّ. فيصلُ إِشعاعُ الجوهر إلى النَّفسِ من خلال العين القارئة والعقل المستوعب للصُّور التي تتوالدُ من بلاغة اللُّغة فالمعاني تنيرُ عتمة المباني...!.
          وباعتبار الشَّاعر والأَديب شاهداً على عصره... فهو الضميرُ الناطق أَوَّلاً وأَخيراً، واللِّسانُ الذي لا يُقطعُ بجائزةٍ أَو بمديةٍ لا بدَّ أَن يجأَرَ ويعلنَ مصائبَ وطنٍ من خلال احتجاجً على ما حدثَ ولِمَ وكيفَ؟.
          يوسف صائغ صوتٌ صارخٌ أَمامَ اجتياح العراقِ تشاركهُ صراخَهَ المرَّ ويتَّحدُ صوتُهُ بصوتكَ، إنَّكَ الآخرُ المخاطَبُ فهو رأَى وكتبَ من أَجل المتلقِّي يبني جسراً من الكلمات فتلتقي به في منتصف الجسر وتتمنَّى أن تكون كاتبَ نصِّه.. لكنَّه هو الذي رأَى وأَهداكَ الصورة في الزمان والمكان كما عاشها في بغدادَ:
          " أَخذتْني بغدادُ وأَنا ابن ثماني عشرة سنة. ومنذ حللتُ فيها صارتْ أُميِّ وأُختي وعشيقتي. ولقد ولدتُ من أَحشائها بعد أَربع سنوات، وما زلتُ أَحمل معي حتَّى رائحتها وآثار أَصابعها وسجلَّ وصاياها المختلط بخبرتي وذاكرتي. في بغداد أُعطيَ لي ولأَوَّل مرَّة ـ كما أُعطيَ لآدم ـ أَن أَذوقَ تلكَ الفاكهة المحرَّمة التي من بعدها أَصبحتُ مؤهَّلاً لدخول الجنَّة، غير عابىء بأَنَّني يمكن أَن أُطردَ منها في أَيِّما لحظة. كانت بغداد في تلكَ الساعة قد تقمَّصتْ شكل امرأَة سمراء، سمرة جنوبيَّة هي في جوهرها المزاج الفذُّ من القمح والشعير.. ونكهة الخبز الحار.. والشهوة الأَبديَّة. بغداد صار اسمها في تلكَ الليلة الشتائية "صبريَّة" تلكَ هي المرأَة الأُولى وذلك أَوَّلُ امتحاناتي الأَشد جمالاً والأَكثر صعوبة / وجهاً لوجه مع الحبِّ والجسد".
          والعودُ أَحمد إلى قصيدته: أَما كان يمكن؟
          "ها أَنا واقف فوق أَنقاض عمري
          أَقيسُ المسافة ما بين غرفة نومي وقبري
          وأَهمسُ: وا أَسفاهُ لقد وهنَ العظمُ
          واشتعلَ الرأْسُ واسودَّتِ الروُّحُ
          من فرط ما اتَّسخت بالنفاقْ
          ـ سلامٌ على هضبات الهوى
             سلامٌ على هضبات العراقْ" ـ
لقد حذفَ شيباً بعد كلمة الرأْس وصاغَ صورة الشيخوخة وَهَنَ العظمُ وأَحضرَ الجواهريَّ ببيت شعر له وهو الأَخير في هذا المقطع. يشدُّنا إلى مكان وزمان الحدث:
          إنهَّا السَّاعة الثانية والثلاثون، بعد منتصف اللَّيلِ
          بغدادُ نائمةٌ والهزيعُ ثقيلْ
          وحدَهُ النهرُ مُستيقظٌ والمنائرُ
          والقلقُ المتربِّصُ خلف جذوع النَّخيلْ
          فجأَة... ومادَ المدى
          وتجعَّدَ جلدُ الظَّلامِ واقشعَّر السكونْ
          تُرى... أَما كانَ يمكن إلاَّ الذي كانَ
          أَما كانَ يمكنُ إلاَّ الذي سيكونْ؟...
          رسمَ الجوَّ جوَّ الخوف، والقلقَ المصيريَّ والوجوديَّ.. نومُ بغداد... النهر ساهرٌ ومنارات المآذن تسبِّحُ الله والفجرَ... لماذا تجعَّدَ جلد الظَّلامِ؟ والسكونُ تبدَّلَ باستخدام الفعل اقشعرَّ دلالةً على الرُّعبِ والذهول:
          "كانَ لا مناصَ سوى
          أَن تُخانَ على صدق حُبِّكَ، أَو تخونْ "
          لحظة مواجهة بين الولاءِ والهروب من المواجهة.. فالقصفُ بدأَ: قمرٌ من دمٍ قد التصق به كِسرٌ من الخبز/ دمٌ... وترابْ/ الدَّمُ إِعلانٌ عن الكِسَرِ الأَشلاءِ للجسد الخبز، والدَّمُ ناطقٌ لا يكذبُ وهو شاهدٌ على وقوع الحدثِ... ونرجع إلى استفهامه: أَما كان يمكن إلا الذي كانَ؟ أَما كانَ يمكنُ إلاَّ الذي سيكون؟
          " ولقد نظرتُ بمقلتيْ ذئبٍ إلى وطني...
            ورأيتُني أُتشمَّمُ الجثثَ الحرامْ
            أُفتِّشُ القتلى عن امرأَتي
            لكنْ صاحَ غرابُ البينْ
            فانشقَّ المشهد قسمينْ:
            مشهد عن يسار ضريح الحسينْ
            وآخر في ملجأ "العامريَّةْ"
            المأْساة تستدعي استشهاد الحسين، والرُّعبُ قادَ الناس إلى الملجأ هرباً من الموت/وصوت جنين يضحكُ تحت الأَنقاض/ هل من خلال الموت تولد الحياة؟ ما هذا التناقض في الطبيعة الواحدة؟ مقابلة الأَضداد في لحظة واحدة عندما يتحوَّلُ الإنسانُ إلى ذئبٍ مفترسٍ يقتاتُ من لحم أَخيه ليحوِّلَ الكونَ إلى فسادٍ وقهرٍ واستلابٍ لا يُبقي ولا يَذَرُ ذرَّةً من حياء الإنسانيَّة.. أَو شذرةً من الجوهر. اللوياثان يعودُ إلى الظُّهورِ ولكن ليس في البحر الأَزرق بل فوق بحر النَّفطِ العربيِّ، البعيد عن آباره الوطنيَّة، يا لجشع الغول الأَميركيِّ البشع!.
          يُدخلُنا الشَّاعر في مشهد التراجيديا الماثلة فوق المسرح:
          " واقفٌ فوق أَنقاض عصري
            كالصليب يمدُّ يدينِ مضرَّجتينِ
            فما بين يأْسٍ وصبرِ
            أَلا أَيُّها الراهبُ الأَبديُّ الجريحْ
            أَما آن لكَ أَن تستريحْ
            وتدركَ أَنَّكَ لستَ المسيحْ
            وإنَّ اختيارَ الطريق إلى الجلجلة
            لم يَعُدْ معضلة
            في زمانٍ كهذا الزمانْ
            غدا مهزله
            ومحضَ جنونْ
            تُرى أَما كان يمكنُ إلاَّ الذي كانَ،
            أَما كانَ يمكنُ إلاَّ الذي سيكونْ؟ "
            لقد أَزاحَ عمري وأَتى بعصري كشاهد على العصر والحدث، أَتى بالجلجلة والمسيح وعذاب الصَّلب ـ يدين مضرَّجتين ـ من دَقِّ المسامير... هل تطوفُ أَطيافُ اليهود فوق أَجواءِ ومسرح الحدث الذي وصفَهُ بالمهزلة ومحض جنون للوحش!
          ولا بدَّ من استعراض تصرُّفه ببيت الجواهري:
          سلامٌ على هضبــات الهـوى                 سلامٌ على هضبات العراقْ
          سلامٌ على هضبات زمانٍ مضى                سلامٌ على هضبات العراقْ
          سلامٌ على هضبـات المنــى                 سلامٌ على هضبات العراقْ
          يفضح الشاعر أَدغال العصر الأَميركي الملعون، وامرأَتُه تحوَّلتْ إلى جثَّةٍ بلا كفنٍ في ضمير الحضارة، ومتى دبَّ فيها التحلُّلُ ستفضح سرَّ العلاقة بين القداسة في ما نحبُّ وبين الدعَّارة التي تنشرها أَمريكا فوق تمثال حرِّيتها! ويختم قصيدتهُ: حتَّى اسمي يوسف الصائغ/ استوقفني لصٌّ في الليَّل وهدَّدَني/ فحلفتُ له أَنِّي لا أَملكُ شيئاً../ قال: إذنْ قُلْ لي ما اسمكَ أَو سوف تموت/ فضحكتُ وقلتُ له: صدِّقْني يا لصَّ اللَّيلِ... حتَّى اسمي أَخذوهُ منِّي"
          وخلاصة القول: يوسف الصائغ قلادة الأَدب العراقيِّ الثمينة، وأَحد أَبرز من يحقُّ لنا أَن نتباهى بهم بإنجازاتهم في الرِّواية والشِّعر والمقالة والرسم والمسرح، وقبل كلِّ ذلكَ هو من تلكَ النُّدرة التي لم تتهيَّبْ أَمام حشد الخنادق، ولم تركبْها (كثرة النقائض) بل سعت إلى أَن تحقِّقَ التفرُّدَ على الدوام وأَنْ تغلِّفَ الكلمة بما يُبقيها متأَلقةً على "الَّلوح غير المكتوب " لوح الذاكرة. من أَقواله: "لستُ صامتاً.. مع هذا يحتلُّ الصمتُ من تجربتي الحسابَ النهائيَّ الأَقربَ للكرامة. أَزمة الشِّعرِ والشَّاعر تتمثَّل في القدرة على حلِّ معضلة العلاقة الذهبيَّة بين الخاصِّ والعامِّ.
          إنِّني شاعر عافتْ نفسُهُ قصائدَهُ. التواضع ليس زينةً دائماً ونكران الجميل فاكهة تضرِّسُ القلبَ " إنَّهُ شاعر الذات والجسد والهويَّة. وهذا غيضٌ من فيض ينابيعه... ونقطة ماءٍ من بحره المتلاطم الأَمواج، ويبدو أنَّ الماءَ حلَّ محلَّ السَّراب وأَطفأَ الجمرةَ !.
            (1) شَرَعٌ أو شرْعٌ:  سواء. نهجٌ أو طريق ـ المصباح المنير ـ
 
 
WEBMASTER : AA-ALSAAD
This Web Site Programmed and Written By ABD ALMASSIH JAMIL ALSAAD ..... Copyright 2003 (C) SCOPNET  All Rights Reserved 

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق