الأحد، 15 نوفمبر 2015

مجلة السنونو ( العدد السابع ) - قصص قصيرة - الوردة ( بسام جبيلي )

مجلة السنونو ( العدد السابع ) - قصص قصيرة
الوردة ( بسام جبيلي )
 

الـــــوردة

                                                                                    بسام جبيلي
          أضناه الانتظار حتى بلغ الخمسين, وأدرك فجأة مدى زيف و هشاشة علاقاته بالناس والأشياء , أعاد النظر بكل شيء , باع أثاث بيته وأهدى كتبه ومزق قصائده  و ابتعد عن أصدقائه , وغاص في وهم الانتظار. تخفف من عبء المكان و حين نبت له جناحان , لم يدهش أو يعجب أو يعبأ بذلك.
          لم يحتفظ سوى بسرير, و كرسي , وكتاب عن تفسير الأحلام ,  ولوحة وحيدة على جدار غرفته, لوحة صغيرة لمصباح يضيء طاولة عليها مزهرية فيها وردة و إلى جانبيها كرسيان فارغان.
         أحب هذه اللوحة كثيرا و لم يمل أبدا من النظر إليها , فبساطتها أعادت  له فضوله الطفولي القديم , وعمقها أعطاه إحساسا بالزمن الهارب ومعنى جديدا لانتظاره  المبهم الكئيب. لكنه لدهشته وحيرته , لاحظ يوما أن وردة اللوحة بدأت بالذبول بعد أن  جف ماؤها . وكان الماء موفورا لديه , فعرف متأخرا ما غاب عنه لسنوات , وتلمس بصعوبة سر حيرته و تردده. فأحلامه الحمقاء ما عادت تحتمل التفسير, وعقله المتعب أضناه الانتظار.  فأدرك مباشرة أن ما يحتاجه فعلا هو أن يتعلم كيف يتعايش مع أوهامه. ليكون في قلب الحلم، يتأمله و يتجول فيه، كما البهلوان في سيرك قديم.
         ولم يحتمل الانتظار أكثر , فنظر إلى الجدار وتوجه نحو اللوحة فدخل فيها و أطفأ النور.
 
*     *     *
 

علب الدخان الفارغة                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                           

               في طفولته الباكرة , وأمام قلق و خوف الأهل و الأطباء , لم يستطع تعلم السير إلا متأخرا  حتى بلغ عمره السنتين . لكنه منذ أن مشى خطواته الأولى غدا المسير غاية حياته و سر وجوده وقدره اليومي. لقد فاز في كل سباقات الجري ومشى قاطعا المسافات الشاسعة و جال في طول البلاد وعرضها . وبالرغم من ورود اسمه في موسوعة غينيس للأرقام القياسية فقد أدرك سريعا زيف سعادته العابرة و مجده الواهم , وعرف مدى هشاشة تعلقه بالأرقام , فبدأ يدخن و يجمع علب الدخان الفارغة, ويبحث عنها في كل مكان  لتصبح  غاية حياته , فسكنت وجدانه, و احتلت بيته لتملاْ الرفوف و الخزائن, حتى وصل  تراكم علبه الفارغة إلى الغرف و الممرات وسدت الأبواب و النوافذ .
               كان يسعى باحثا عنها في كل مكان بنشاط وغريزة النحل  قانعا و سعيدا , وكم تساءل الفضوليون من حوله , عن سر هوايته الغريبة , فكان يضحك في سره ويستمر بجمع العلب . وعندما مات كانت العلب قد تسلقت إلي سريره و أطبقت على وسادته, فلم يتمكن الناس من دفنه، وأخذوا يتساءلون, هل هو مجرد شخص غريب الأطوار؟ أم هو حالم مغمور بنى أهرامه الورقي الهائل من فتات الآلام و الآمال و الأحلام المؤجلة ؟    
          
*    *    *

رائحة البارود

                                                          
هل هي عودة أخرى لأحلامي القديمة المخيفة ؟ أم هو شعور مبهم بتوازن الرعب بين قذيفتين , أنا من كف عن تذكر أحلامه من زمن بعيد , حين فقدت القدرة على التمييز و أدراك الفرق بين شراسة  الحلم و كوابيس  الواقع . و لم يكن سبب دهشتي ذاك الحلم القديم المتكرر لقذيفة انفجرت في غرفتي الصغيرة , بل كان بسبب شعوري العجيب  في أني أحيا داخل الحلم و خارجه في نفس الوقت , وحين صحوت , ضحكت في سري كمن يشاهد فيلما سينمائيا أعيد عرضه . لم أكن خائفا أو حانقا أو متألما , بل كنت , بين النائم والصاحي مسجونا في الحلم, ولم توقظني إلا رائحة البارود و شياط  اللحم المحروق . ولحيرتي وتعجبي ! حينما تفحصت أعضاء جسدي  لم أجدها في مكانها , لقد اختفت , بكل بساطة , وغدت أشلاء متفحمة ملتصقة بالجدران . و لم أكن أسمع في هذا السكون الموحش سوى دقات قلبي , فبحثت عنه في فوضى الخراب و تتبعت النبض , لأجده معلقا ينتفض على الجدار كساعة قديمة  بلهاء . وصرت كمن يراقب ملهاة سوداء , كنت فيها الشاهد وأنا الشهيد .
         بعد الانفجار بدأ الناس يتدافعون ليشاهدوا قلبي النابض المعلق على الجدار , و رغم أن أحدا  لم يتذكر اسمي , فقد كنت سعيدا فخورا أمام عجب الجمهور ودهشته , و بعد أن أزالوا رائحة الدمار و نظفوا الأشلاء عن الجدران . بنوا غرفة جانبية لقطع التذاكر , وعبدوا الساحات والمداخل لاستقبال وفود الزوار. كنت ابتسم بخبث لأني كنت أعرف دوافعهم الساذجة و خفايا نواياهم قصيرة الأمد . وكان أول من زارني رجال الدين المبهورون بالمعجزة , ثم جاء المسؤولون كواجب وطني لا بد منه، واهتمت وسائل الإعلام كعادتها بتجميل الحدث و تلميعه , وانتشر الخبر وتناقلته وكالات الأنباء  و بدأ السياح يتوافدون . 
         لم أشعر بالخوف أو أدرك حجم الفاجعة , إلا مع مرور الزمن , حينما تبدلت الأمور فجأة فأحاطوا المكان بالأسلاك الشائكة وصرفوا قاطع التذاكر , وأغلقوا آذانهم عن سماع دقات قلبي النابض على الجدار, عندها فقط , شعرت بخوف حقيقي و حزن شديد , فنسيت اسمي و جافاني الابتسام وأضعت كل أمل في العودة إلى حلمي القديم . حينها بدأت الأعشاب المتسلقة تغزو المـكان و انتشرت الطفيليات و النباتات الجهنمية الحمقاء في كل اتجاه , فنفذت خلال بلاط غرفتي ونمت حتى سدت الأبواب و النوافذ و وتسلقت إلي قلبي على الجدار . ومن يومها أصبح وجودي متعلقا بنمو هذه الطفيليات الزاحفة وأمسى همي الوحيد أن أصحو من حلمي الرهيب , ولو لدقيقة واحدة , قبل أن يصمت قلبي و يتوقف عن النبض . آملا أن أجد واحدا منكم يمكنه أن يشرح لي, و لو بكلمة، ما كان يجري خارج غرفتي الصغيرة البائسة .
 
 
WEBMASTER : AA-ALSAAD
This Web Site Programmed and Written By ABD ALMASSIH JAMIL ALSAAD ..... Copyright 2003 (C) SCOPNET  All Rights Reserved 

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق