مجلة السنونو (
العدد السابع ) -
قصص قصيرة
|
الوردة (
بسام جبيلي )
|
الـــــوردة
بسام جبيلي
أضناه الانتظار حتى بلغ الخمسين, وأدرك فجأة مدى زيف و هشاشة علاقاته
بالناس والأشياء , أعاد النظر بكل شيء , باع أثاث بيته وأهدى كتبه ومزق قصائده و
ابتعد عن أصدقائه , وغاص في وهم الانتظار. تخفف من عبء المكان و حين نبت له جناحان
, لم يدهش أو يعجب أو يعبأ بذلك.
لم يحتفظ سوى بسرير, و كرسي , وكتاب عن تفسير الأحلام , ولوحة وحيدة على
جدار غرفته, لوحة صغيرة لمصباح يضيء طاولة عليها مزهرية فيها وردة و إلى جانبيها
كرسيان فارغان.
أحب هذه اللوحة كثيرا و لم يمل أبدا من النظر إليها , فبساطتها أعادت له
فضوله الطفولي القديم , وعمقها أعطاه إحساسا بالزمن الهارب ومعنى جديدا لانتظاره
المبهم الكئيب. لكنه لدهشته وحيرته , لاحظ يوما أن وردة اللوحة بدأت بالذبول بعد
أن جف ماؤها . وكان الماء موفورا لديه , فعرف متأخرا ما غاب عنه لسنوات , وتلمس
بصعوبة سر حيرته و تردده. فأحلامه الحمقاء ما عادت تحتمل التفسير, وعقله المتعب
أضناه الانتظار. فأدرك مباشرة أن ما يحتاجه فعلا هو أن يتعلم كيف يتعايش مع
أوهامه. ليكون في قلب الحلم، يتأمله و يتجول فيه، كما البهلوان في سيرك قديم.
ولم يحتمل الانتظار أكثر , فنظر إلى الجدار وتوجه نحو اللوحة فدخل فيها و
أطفأ النور.
* * *
علب الدخان الفارغة
في
طفولته الباكرة , وأمام قلق و خوف الأهل و الأطباء , لم يستطع تعلم السير إلا
متأخرا حتى بلغ عمره السنتين . لكنه منذ أن مشى خطواته الأولى غدا المسير غاية
حياته و سر وجوده وقدره اليومي. لقد فاز في كل سباقات الجري ومشى قاطعا المسافات
الشاسعة و جال في طول البلاد وعرضها . وبالرغم من ورود اسمه في موسوعة غينيس
للأرقام
القياسية
فقد أدرك سريعا زيف سعادته العابرة و مجده الواهم , وعرف مدى هشاشة تعلقه بالأرقام
, فبدأ يدخن و يجمع علب الدخان الفارغة, ويبحث عنها في كل مكان لتصبح غاية حياته
, فسكنت وجدانه, و احتلت بيته لتملاْ الرفوف و الخزائن, حتى وصل تراكم علبه
الفارغة إلى الغرف و الممرات وسدت الأبواب و النوافذ .
كان يسعى باحثا عنها في كل مكان بنشاط وغريزة النحل قانعا و سعيدا
, وكم تساءل الفضوليون من حوله , عن سر هوايته الغريبة , فكان يضحك في سره ويستمر
بجمع العلب . وعندما مات كانت العلب قد تسلقت إلي سريره و أطبقت على وسادته, فلم
يتمكن الناس من دفنه، وأخذوا يتساءلون, هل هو مجرد شخص غريب الأطوار؟ أم هو حالم
مغمور بنى أهرامه الورقي الهائل من فتات الآلام و الآمال و الأحلام المؤجلة ؟
* * *
رائحة البارود
هل هي عودة
أخرى لأحلامي القديمة المخيفة ؟ أم هو شعور مبهم بتوازن الرعب بين قذيفتين , أنا من
كف عن تذكر أحلامه من زمن بعيد , حين فقدت القدرة على التمييز و أدراك الفرق بين
شراسة الحلم و كوابيس الواقع .
و لم يكن سبب دهشتي ذاك الحلم القديم المتكرر لقذيفة انفجرت في غرفتي الصغيرة , بل
كان بسبب شعوري العجيب في أني أحيا داخل الحلم و خارجه في نفس الوقت , وحين صحوت ,
ضحكت في سري كمن يشاهد فيلما سينمائيا أعيد عرضه . لم أكن خائفا أو حانقا أو متألما
, بل كنت , بين النائم والصاحي مسجونا في الحلم, ولم توقظني إلا رائحة البارود و
شياط اللحم المحروق . ولحيرتي وتعجبي ! حينما تفحصت أعضاء جسدي لم أجدها في
مكانها , لقد اختفت , بكل بساطة , وغدت أشلاء متفحمة ملتصقة بالجدران . و لم أكن
أسمع في هذا السكون الموحش سوى دقات قلبي , فبحثت عنه في فوضى الخراب و تتبعت النبض
, لأجده معلقا ينتفض على الجدار كساعة قديمة بلهاء . وصرت كمن يراقب ملهاة سوداء ,
كنت فيها الشاهد وأنا الشهيد .
بعد الانفجار بدأ الناس يتدافعون ليشاهدوا قلبي النابض المعلق على الجدار
, و رغم أن أحدا لم يتذكر اسمي , فقد كنت سعيدا فخورا أمام عجب الجمهور ودهشته , و
بعد أن أزالوا رائحة الدمار و نظفوا الأشلاء عن الجدران . بنوا غرفة جانبية لقطع
التذاكر , وعبدوا الساحات والمداخل لاستقبال وفود الزوار. كنت ابتسم بخبث لأني كنت
أعرف دوافعهم الساذجة و خفايا نواياهم قصيرة الأمد . وكان أول من زارني رجال الدين
المبهورون بالمعجزة , ثم جاء المسؤولون كواجب وطني لا بد منه، واهتمت وسائل الإعلام
كعادتها بتجميل الحدث و تلميعه , وانتشر الخبر وتناقلته وكالات الأنباء و بدأ
السياح يتوافدون .
لم أشعر بالخوف أو أدرك حجم الفاجعة , إلا مع مرور الزمن , حينما تبدلت
الأمور فجأة فأحاطوا المكان بالأسلاك الشائكة وصرفوا قاطع التذاكر , وأغلقوا آذانهم
عن سماع دقات قلبي النابض على الجدار, عندها فقط , شعرت بخوف حقيقي و حزن شديد ,
فنسيت اسمي و جافاني الابتسام وأضعت كل أمل في العودة إلى حلمي القديم . حينها بدأت
الأعشاب المتسلقة تغزو المـكان و انتشرت الطفيليات و النباتات الجهنمية الحمقاء في
كل اتجاه , فنفذت خلال بلاط غرفتي ونمت حتى سدت الأبواب و النوافذ و وتسلقت إلي
قلبي على الجدار . ومن يومها أصبح وجودي متعلقا بنمو هذه الطفيليات الزاحفة وأمسى
همي الوحيد أن أصحو من حلمي الرهيب , ولو لدقيقة واحدة , قبل أن يصمت قلبي و يتوقف
عن النبض . آملا أن أجد واحدا منكم يمكنه أن يشرح لي, و لو بكلمة، ما كان يجري خارج
غرفتي الصغيرة البائسة .
|
WEBMASTER : AA-ALSAAD
|
This Web Site Programmed and
Written By ABD ALMASSIH JAMIL ALSAAD
..... Copyright 2003 (C) SCOPNET All
Rights Reserved
|
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق