الأحد، 15 نوفمبر 2015

مجلة السنونو ( العدد السابع ) - فن ونقد - حلا نقرور والبحث عن طريق ثالث ( بسام جبيلي )

مجلة السنونو ( العدد السابع ) - فن ونقد
حلا نقرور والبحث عن طريق ثالث ( بسام جبيلي )



         ارتبطت الموسيقى البيزنطية بالكنيسة الشرقية واستمرت على مدى ألف و ستمائة عام معتمدة  في بنائها على الموسيقى اليونانية القديمة , و انتشرت لدى الشعوب التي اعتنقت مذهب الكنيسة الاورثوذوكسية , مثل السوريين و الأرمن و الروس و البلغار و غيرهم ممن قبلوا هذا المذهب واعتمدوه في طقوسهم الدينية , و لم تكن لغة الشعائر الاورثوذوكسية  موحدة كما هو  الحال لدى الكنيسة المسيحية الغربية , بل كانت لكل كنيسة منها شعائرها المؤداة  بلغة بلادها , وهذا ما خلق حالة فريدة هي مزيج من اللغة المحلية و القواعد البيزنطية في التلاوة والترتيل  يمكن اعتبارها أهم إسهام من قبل الكنيسة الشرقية في الموسيقى و الشعر . و التي كان بعضها ترجمة لتراتيل سريانية ترجع أصولها   إلى الحان محلية سورية قديمة . ولما كانت المسيحية الأولى, بادئ الأمر, دينا شعبيا يتعارض مباشرة مع السلطات, كان من الطبيعي أن يكون فن الطقوس الجديدة , إلى حد كبير , نتاج عمل فنانين محليين . وهكذا استطاعت الكنائس الشرقية أن تصوغ من هذا التراث فنها الموسيقي الخالص الذي اكتســـــــب بمرور الزمن قوة و أصالة .  
        إن هذه الخصوصية النغمية الممتزجة باللغة هي ما يجب تعميقه و إعادة دراسته وتسليط الضوء عليه  باعتباره حالة فريدة و أصيلة  ينفرد بها تراثنا السوري العريق . وما زالت الكنيسة تملك عددا هائلا من المؤلفات الشعائرية ومن المخطوطات حفظت لنا ثروة من الأناشيد ( شعرا و موسيقى) تفتح أمام مؤرخي الحضارة البيزنطية  و المحققين و الموسيقيين الجادين حقول معرفة لا نهاية لها .

 

         من هذا المنظور يمكن فهم الحضور اللافت لتجربة موسيقية شابة أثبتت تميزها الواعي في السنوات القليلة الماضية  هي تجربة الآنسة حلا نقرور التي أسهمت بإخلاصها لفنها و أصالة أدائها      الصوتي بالتنبيه إلى مدى أهمية محتوى الموروث البيزنطي المنطوي على ذخائر تراتيل الكنيسة الاورثوذوكسية . واستطاعت عن طريق مثابرتها و دأبها إقناعنا كمستمعين بمدى جدية مشروعها الفني الذي صقلته بدراستها الأكاديمية للموسيقى إضافة إلى تحصيلها الجامعي للأدب الإنكليزي . فقد أدركت و أحست هذا الثراء المدهش و العميق للمنظومتين المقامية  و الإيقاعية لتراثنا الشرقي القديم وفهمت روح الارتجال الذي يميز الغناء البيزنطي في استلهام حرية الأداء ضمن أكثر القوانين الموسيقية تقليدية       و صرامة ما يخلق لدى الأذن المدربة , هذا التوتر الجميل بين الممكن و المستحيل .
        يتميز الغناء البيزنطي بإطالة النغم الأخير حيث كانت الميلوديات تقسم إلى جمل تتبع سير نبرات المد والسكون في أداء النصوص وفق معانيها , وهي بعيدة عن كل مصاحبة هارمونية سواء في الغناء الفردي أو الجماعي, فيما عدا ما يبرز أحيانا هنا وهناك من أداء للكورس يمكن اعتبــاره كموسيقــــــــى
 مصاحبة . لقد كانت التراتيل تمضي لدى المسيحيين الأوائل كما هي الآن على شكل إنشاد تؤديه مجموعة من أصوات الرجال من طبقة( الباريتون ) على نهج إيقاع الشعر و دون التقيد بمقياس زمني محدد يفرضه الخط اللحني, فيتبع اللحن المقياس الشعري دون أن يتحكم فيه .
        إن خامة الصوت , هذه البصمة الإلهية التي تخلق مع الإنسان , كلون الشعر و العينين , هي ما يميز الأصوات الجميلة القادرة في تاريخ الغناء العربي , وهي ما يميز صوت حلا نقرور في اتساع مداه المقامي وقدرته على أداء صوت القرار بحرفية و حيوية نادرين  فصوتها, كما أرى , هو من طبقة  ( الميتزوسوبرانو ) هذه الفئة من الأصوات النسائية متوسطة الحدة  التي تقابل طبقة الباريتون للأصوات الرجالية التي تكلمنا عنها سابقا و التي اعتمدتها الكنسية  كأساس للتراتيل . وهكذا نرى أن حلا نقرور لم تختر أداء التراتيل بل على العكس فان التراتيل هي التي سعت إليها و اختارتها. ورغم أن تجربتها اتسعت لتشمل أداء أغانيها الخاصة ضمن منظور المضمون الديني . فان هذه الأغاني أو التراتيل الحديثة , لحنا و كلمات , ظلت منفصلة بشكل مطلق عن روح التراتيل و الأداء البيزنطي . لذلك يمكن اعتبار تجربة حلا نقرور تسير في اتجاهين أحدهما يسعى نحو التراث و تقديمه كما هو دون زيادة أو نقصان و الآخر ينحو لتقديم ترتيلة حديثة رومانسية الأسلوب والأداء .
         و السؤال الواجب طرحه على الملحنين و المؤدين والمختصين  هنا هو عن مدى  الإمكانيات المتاحة للاستفادة من قوانين تراثتا البيزنطي الموسيقي القديم  وعن كيفية استلهامه و صياغته مجددا ضمن موسيقانا الحديثة و أغانينا المعاصرة . وهنا يمكن تتبع تيارين أحدهما التيار الذي ترجم وأضاف وجدد منذ نهاية القرن التاسع عشر وعلى رأسه ( متري المر و اندراووس معيقل و ديمتـــري كوتيـــــا و ماري كيروز)  والتيار الثاني الذي حاول استلهام هذا التراث و الاستفادة منه جزئيا  بإدماجه مع أسلوبه  الخاص في التلحين والأداء مثل ( الرحابنة  و فيروز و وديع الصافي ) .  لا شك بأننا بحاجة إلى كلا التيارين فالأرض خصبة ولا تتطلب سوى العمل المخلص والجاد . وإذا عدنا إلى حلا نقرور وبالتحديد إلى الاتجاه البيزنطي في تجربتها نجد أنها وضعت قدمها على الدرجات الأولى في الاتجاه الصحيح , فبقدر تعمقها في هذا الجانب وبحثها في هذا التراث الغزير الجميل , بقدر ما يزيد مخزونها اللحني ثراء ويوفر لتقنيتها النضج والسلاسة بمرور الوقت و ازدياد الخبرة ما يمكنها حينئذ  من انتقاء وتبني ما يناسب ذائقتها الفنية من التراتيل المنسية الصعبة غير المتداولة وتقديمها, بعد  نفض الغبار عنها,  مدعومة بحسها الراقي وقدرتها الصوتية المعبرة . ومن حسن الحظ أن الطريق معبدة لمن يريد الاستفادة  من التجارب السابقة عبر إضافات اندراووس معيقل و جهود ديميتري كوتيا بابتكار الألحان الجديدة المقاربة للأصول . وهكذا يصبح التصدي لهذا المشروع الإحيائي الكبير والمساهمة به ركناً مهماً ورؤية متقدمة لمستقبل الموسيقى العربية , و بجهود المخلصين من أمثال حلا نقرور يمكن استشراف بصيص الأمل عاجلا أم آجلا . فحاجتنا للبحث عن جذورنا المهملة المنسية , أصبحت ملحة, ولا يمكن تصور فن أصيل حديث راق ينحو إلى العالمية إلا بشرط مروره عبر بوابة المحلية .
        إن نظرة متأنية إلى المشهد الموسيقي المعاصر, محليا كان أم عربيا, تظهر مدى خطورة وعمق الوضع المتردي الذي وصلت إليه الموسيقى العربية بعد أن بدأت تفقد مكانتها الروحية العذبة وخصوبتها التعبيرية الممتدة على مدى قرون لتحل محلها الفوضى و العشوائية و الانفلات و الاستسهال ,  و هذا ما

انعكس على التلقي والاستماع فتم تحويل الإصغاء العذب و الغنائية النبيلة إلى إيقاعات سريعة صاخبة وخواء روحي بائس . ولقد دأب المخلصون من خلال المنتديات و المؤتمرات الموسيقية منذ عقود على طرح عشرات التوصيات والقرارات التي ذهبت أدراج الرياح . وهذا ما يثبت مدى صعوبة الانفلات والخروج من دوامة فضلات الموسيقى السائدة .  
        وإذا انتقلنا إلى الجانب الثاني من تجربة حلا نقرور في الاتجاه إلى تقديم الترتيلة الحديثة, فإننا نجد أنها قد اختارت فنا إشكاليا صعبا و ضيق المجال . ففي أغلب التجارب السائدة عربيا أو محليا  نجد أنفسنا أمام كلمات والحان دون مرجعيات سابقة أو تقاليد تبني على أساسها فتصبح عرضة للتأثر و الانجراف إلى تقاليد الأغاني السائدة . وهذا يختلف عن الترتيلة ذات الصبغة البزنطية الرحبة التي تعتمد على مرجعيات أدبية و لحنية غربلتها و صقلتها السنون و الأيام .  لكن الأمر يختلف عندما نتمعن في تجربة حلا نقرور ,لأنها تجربة لا تنحصر في الأداء, بل تتعداه إلي تقديم أغنياتها الخاصة بالكلمة و اللحن , وهي بذلك تقيم مشروعها الخاص, وتقدمه بإتقان وتفان و إخلاص, فتدرب كورال الأطفال وكورال اليافعين وتدخل التوزيع الموسيقي و تضيف الهارموني إلى أعمالها ما يكسبها خصوصية جميلة آسرة . ورغم أن هذه الجهود تبقى محصورة في مجال محدود بالغ الضيق على  مستوى اختيار الكلمة واللحن , فإننا نجد أن حلا نقرور في أعمالها الأخيرة استطاعت أن توسع دائرة اختيارها للكلمات والألحان لتصبح الكلمات أقل مباشرة والألحان أكثر تلوينا .
 
      وأخيرا يمكننا طرح السؤال الصعب على كــل مـــــن حلا نقــــرور و أمثالها من المثابرين الجادين ممن يتحملون أعباء مشروعهم الموسيقى . كيف يمكن الخروج مـــــــن الحلقة المفرغـــــة للفوضــى والعشوائيـــــة و الاستسهال  التي وجدت موسيقانا نفسها داخلها ؟ وهل تكفي النيات الحسنة والقرارات الرسمية في كسر هذه الحلقة ؟ ويبدو أن الجواب عند حلا نقرور واضح وصعب , في نفس الوقت , بدلالة ما قدمته حتى الآن من أمسيات وحفلات ناجحة على كل المستويات . فاكتشاف أسرار الطقس البيزنطي ومحاولة دمجه أو إذابته, إذا أمكن ,  في كيان أغنية حديثة بعيدة عن المباشرة ذات تطلع إنساني مطلق  يصبح الهدف الأصعب والطريق الثالث الذي بتحقيقه يمكن إعادة الثقة والجمال لتراتيلنا و أغانينا كما ينبغي لها أن تكون .                
     
  

 

  
وحده الإنسان النوراني الذي خلقه الله على صورته صانع الأحلام الخلاّقة في الطريق المرسومة.. ومن ثم ومضة فكرة صغيرة.. ورشة عزم صامدة تحيل الأحلام واقعاً يتحقق.. هكذا كل عمل عظيم، بذرة كان في رحم الأيام..
نهــاد
 
 
WEBMASTER : AA-ALSAAD
This Web Site Programmed and Written By ABD ALMASSIH JAMIL ALSAAD ..... Copyright 2003 (C) SCOPNET  All Rights Reserved

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق