مجلة السنونو (
العدد السابع ) -
قصص قصيرة
|
عفواً أيها البحر
فهد بهجت الحوش
"إلى الصوت الصارخ في عالمنا... ر.ع"
إني
وحيدة..
كل
ما حولي فقدت ارتباطي به منذ زمن. عقارب الساعة المعلقة بالجدار تشير إلى وقت لا
أفهمه. الكنار المصبّر فوق منضدتي يصرخ، أنصت إليه بهدوء، صوته يقرع برأسي.. لم يعد
أنيسي.. الغدر يتدفق من عينيه. كل شيء يغير هويته في توتر مستمر، حتى صوت فادي الذي
أحببته انطفأ..!
"لم
أدري انك عاجز عن حبي لهذا الحد.. كنت الإنسان الوحيد الذي فهمني.. كنت تعلم ما هو
مستقبلي. مستقبل انسانة غير قادرة على المشي بشكل طبيعي، وحين كنت أتساءل: لماذا
أنا وحدي؟ لماذا تذهب الفتيات إلى الجامعة وأنا وحدي أبقى في البيت؟ كنت تقول لي:
رانيا.. أريدك كما أنت!
عندما عرفتك أحسست بالحب، وبه بدأت أحيا.. كانت نظراتك تعوضني عن نظرات الآخرين حين
كانوا ينظرون إلي كإنسانة معاقة جسدياً ويعاملونني كطفلة. كانوا يُعجبون لابتسامي
رغم كل ما أنا فيه، وكنت أعجب منهم لأنهم يعتقدون أن الابتسامة ملك لهم وأنا ممنوعة
منها.
علمني حبك، أنَّ البسمة تشرق مع كل شروق للشمس، وأن الإنسان يولد مع كل كلمة جميلة
يبوح بها. نظرتك كانت لي قارباً انتشلني من نوّ لامفر منه. قبل أن اعرفك كنت أعيش
بلا حياة، أيقظت فيّ أنوثتي المخبأة خلف إعاقتي، أيقظت فيّ الإنسان.. أول إنسان
رايته هو أنت.. كنت خالقي ورحمي وبيتي! إلى عينيك كنت الجأ، ومن نورهما أضيء طريقي
الذي بدأته يوم عرفتك. في صوتك كنت اسمع سيمفونية جديدة ترسم لي أياما لم اعتد
عليها. وفي عينيك كنت أرى صباحاً كصباح أول يوم فكر فيه الله أن يخلق الكون.. كان
حضورك يمدني بالحياة.. يرفعني إلى سماء فيها تحولت من مادة مسحوقة إلى طائر ضخم
جناحاه مغزولان من خيوط الشمس وقلبه يحمل كواكب حديثة لم تعرف وظيفتها بعد.
في
بادئ الأمر أحسست انك بطريقة ما تنسحب. لم أصدق. كان من الصعب عليّ أن أفك أقنعتك
وأنا مازلت ألوك بقايا أوجاعي.
أردت أن أفسر لك إحساسي كلّه لكنك كنت تهمس لي دائماً:
ـ
رانيا.. عيناك موطني.. لا أستطيع العيش بدونهما.
لكنني بدأت افهم نظراتك.. عادت تذكرني بنظرات الآخرين.. أحسست أنك وحيد مثلي، وربما
كنت أكثر وحدة. سألتك: قل لي هل سيستمر حبنا؟
فأجبتني: أن حباً يمكن أن ينتهي لم يكن حباً في يوم من الأيام !
وظلّ لسانك يلفظ جملاً لم اعد أفهمها فيما بعد.
الكنار يصرخ من جديد.. أتحرك.. يتعالى صراخه بوحشية. من عينيّ تتفجر براكين قهر
ووجع، عقارب الساعة تتحرك بسرعة تتوافق مع صراخ الكنار.
أحاول أن اكسرها.. لا أستطيع.. كلاهما يتأمل قهري ووجعي، كانهما يرقبان احتضار شاة
سيقت إلى مذبح غير شرعي.
أني
وحيدة تماماً، لقد مضى فادي ومضى معه قلبي. اشعر بأني أغصّ، أتحرك بصعوبة وأنا احمل
أطرافي التي لم تعرف الاتزان في يوم ما. أتعثّر بالمنضدة.. الكنار يقع أرضا ويخرس
عن الصراخ..أنظرالى عقارب الساعة هي أيضا توقفت عن سرعتها الكنارية، وفي الأرض رأيت
دميتي ووجدتني أسالها عن هويتها.. لكن عينيها صادقتان، أرى فيهما طفولتي وانشغالي
عن هذا العالم الجشع. ليت الجميع ينظرون إليّ كما تنظر إليّ دميتي.. أنهم ينظرون
إلى إعاقتي فقط. أني متعبة وضائعة والأشياء كلها قد استوت لديّ.
الضياع...
سأضيع الليلة بحثاً عن حقول النسيان، اكف عن الانتحاب على فادي وانطلق. انطلق إلى
البحر، استسلم لرطوبته اللزجة، أتلفت حولي وأنا امسح بقايا القهر المترسب على عيني،
اقفز بحرية سجين أفرج عنه قبل أن تنتهي مدة سجنه، وأظلّ اقفز، أريد أن أضيع خارج
العالم في اللامكان، سأقضي على نظراتهم جميعاً، لن اسمح بشفقتهم عليّ، فانا قادرة
على الاستغناء عن ذلّهم المخدّر. سأستمر في الحياة، لا دخل لأحد بمستقبلي، سأستمر!.
فجأة يخيل إلي أنني اسمع صوتاً.. تتشنج أطرافي، أرهف سمعي، أحس أن الشاطئ فيه شيء
يقبلني، أيها البحر! أي سر فيك يشدني؟ أي نوع من المخلوقات أنت؟ أرى أنك المخلوق
الوحيد الذي لم يتسخ! قوة خفية جذبتني إليك، بلا وعي انتزعت نفسي وقدمتها لك
مستغنية عن آلاف الصور لمختلف البشر الذين طالما ركلوني لينسوا إعاقاتهم المدفونة
بداخلهم.
أيها البحر..
لماذا نذكّر بعضنا بتشوهاتنا ولا نذكّر بجمالنا؟ عبثاً أصرخ.. فالعالم قاسٍ،
ونظراتهم ابر حادة تنغرس في راسي اسمع صوت تكسرها كل حين.
أحدق بالبحر.. كأنني لم أزره من قبل، كأنني ما سبحت به ولا عانقت رماله الساخنة.
أرهف سمعي، لا ادري لماذا أحس بحاجة لان أنظف أذني سأسمع أكثر، تكلم أيها البحر
فانا اسمع...
ـ
رانيا... عودي إليهم فهم بحاجة إليك!
ـ
لكنهم رفضوني!
ـ
عالمكم فظيع، لكنه مرغوب فيه.
ـ
قل لي أيها البحر: هل يمكنني أن استمرّ بينهم؟
ـ
عودي إليهم ولا تكوني مثلهم؟
ـ
وفادي؟ لقد هجرني..
ـ
وأنا أيضا تهجرني أحيائي كل يوم..!
أهيم طويلاً على وجهي، امشي.. امشي.. الشاطئ رمل ونخيل، والقمر يسكب ضوءه بامتنان.
أحس بحاجة إلى البكاء. يجب أن ابكي مرة.. أحسّ بالحب يعود إليّ. أحسّ برعشة قوية
تهزني.. أحسّ..أحسّ...، كم أنا فرحة.. سأعود إليهم! وإذا حدث ومتّ قبل أن التقيهم
فإنّ روحي سوف تظللهم وتصلي دائماً من اجلهم...!
* * *
هل شاهدت مرة بومة في سيرك؟
إنها مخلوق يستعصي على التدجين . ويرفض التسول العاطفي ومنطق اللعبة الاستعراضية.
هل شاهدت بومة تحاول إضحاك أحد؟
أو جره إلى مداعبتها ككلب زينة يهز ذيله؟
هل شاهدت مرة بومة مستقرة في قفص تغرد لذلها؟
هل عرض عليك أحد شراء بومة في "سوبر ماركت" المخلوقات الداجنة؟
البومة لا تباع.. ولكنها تحلق إلى ما تحب ومن تحب.. أفلا تحبها؟.
غادة السمان
|
WEBMASTER : AA-ALSAAD
|
This Web Site Programmed and
Written By ABD ALMASSIH JAMIL ALSAAD
..... Copyright 2003 (C) SCOPNET All
Rights Reserved
|
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق