الأحد، 15 نوفمبر 2015

مجلة السنونو ( العدد السابع ) - قصص عالمية قصيرة - القناع والمرآة ( قصة: جورجي بورخيس )

مجلة السنونو ( العدد السابع ) - قصص عالمية قصيرة
القناع والمرآة ( قصة: جورجي بورخيس ) ترجمة: مرهف زين
 
القناع و المرآة
                                                           قصة : جورجي بورخيس

                                                            ترجمة : مرهف زين  


  بعد أن انتهت معركة ( كلونتارف ) بهزيمة النروجيين جلس ملك ايرلندا المنتصر يتحدث إلى شاعر بلاطه قال: إن المآثر العظيمة تخسر الكثير من فتنتها و بهائها إذا لم تكتب وتخلد بالكلمات و لهذا أريدك أن تمتدحني ... و تتغنى بانتصاري لأكن أنا (أسياز) و أنت (فيرجيل) .. هاه .. هل تعتقد أن بإمكانك القيام بهذه المهمة الكبيرة العظيمة التي ستحقق الخلود لنا نحن الاثنين !

        نعم يا سيدي ... أجاب الشاعر و أضاف: لقد تدربت على علم العروض قرابة العشرين شتاء , و أصبحت الآن أحفظ عن ظهر قلب كل الأساطير الثلاثمائة و الستين التي تعتبر أساسا و ركيزة للشعر الحقيقي .. حتى أنني أستطيع الآن أن أترنم بحكايات (أولترومونتر) على أوتار قيثارتي , كما أنني على علم بالقوانيـــن و الأسس التي تجيز لي استخدام الكلمات القديمة الدفينة في لغتنا الأم , هذا ناهيك عن قدرتي على استعمال الاستعارات و التشابيه الأكثر تعقيدا .. نعم يا سيدي .. لقد توصلت إلى كشف سر الكتابة التي تحمي لغتنا من عبث العامة الجاهلة و في مقدوري الآن أن امجد الحـــــب و الحرب و اللصوص و قطاع الطرق .. إنني على معرفة بعلــــوم التنجيــــم و الرياضيـــــــــات و القانـــــون الكنســــي , و أحفظ التاريخ الأسطوري لكل البيوتات الملكية في ايرلندا .
       لقد هزمت كل من تحداني و هيأت نفسي لأن أكون بارعا في فنون الهجاء التي تسبب العديد من الأمراض بما في ذلك مرض الجذام, كما و أثبت في معركتك العظيمة هذه , إنني قادر على استخدام السيف ببراعة فائقة لكن الشيء الوحيد الذي أجهله .. هو كيف أشكرك على الموهبة التي منحتها لي ...‍‍ ‍
         فقال الملك الذي يتململ كثيرا من الخطب الطويلة الرنانة التي يلقيها الآخرون
على مسامعه : أعرف كل تلك الأشياء التي ذكرتها , و لهذا سأمنحك سنة كاملة تعد خلالها

أشعارك و مدائحك و تقوم بدراسة و صقل كل كلمة و حرف ستقوله في حضرتي , و على الملأ أمام شعراء البلاط و رواده .
          أما عن المكافأة فسوف تكون مجزية , ولائقة بالليالي التي ستسهرها مع تخوم الإلهام و الموهبة .
        إن أية مكافأة لن تكون أعظم من رؤية وجهك أيها الملك و التبرك به , قال الشاعر ذلك و انحنى أمام الملك ثم انسحب مغادرا .
      ... و انقضت سنة ... كانت حافلة بالأمراض و الأوبئة و الانتفاضات . و حضر الشاعر و قدم مدائحه للملك ... تلا قصيدته ببطء و رصانة و ثقة و دون أن ينظر إلى المخطوطة التي في يده . وعندما انتهى الشاعر من تلاوة قصيدته عبر الملك عــــن غبطتــــه و استحسانه و ذلك بإيماءة من رأسه . فقلد جميع الحاضرين حركته , بما فيهم أولئك الذين احتشدوا في المداخل و المعابر . و الذين لم يفهموا كلمة واحدة مما قال الملك . : إنني أوافق على جهدك هذا و أعتبره انتصارا آخر . لقد منحت لكل كلمة معناها الحقيقي و لكل وصف وصفته الذي منحه اياه الشعراء القدماء: فالحرب نسيج الرجال الجميل , و الدم ماء السيف . و استخدمت البلاغة استخداما رائعــا و موفقا . ولو نضب أدب ايرلندا كله – لا سمح الله – لبقيت قصيدتك هذه أساسا يعاد بناء هذا الأدب عليه دون أي نقص أو عيب , انه يتوجب على ثلاثين شاعرا أن ينسخوا القصيدة اثنتي عشر مرة لكل شاعر , وبعد برهة من الصمت أضاف الملك : كل شيء يسير بشكل طبيعي , فالدم يجري في عروقنا بهدوء و أيدينا لا تهتز ووجوهنا لا يعتريها الشحوب ... أيها
الشاعر سأمنحك سنة أخرى تعد خلالها قصيدة ثانية , و كمؤشر على استحساننا لمجهودك سنمنحك هذه المرآة المصنوعة من الفضة فرد الشاعر فرحا : شكرا أيها الملك لقد أدركت ما تعنيه بالضبط ... انقضت السنة ... وجاء الشاعر يحمل مخطوطته الجديدة . كانت قصيدته أروع من القصيدة الأولى لكنه لم يرتلها ارتجالا هذه المرة , بل قرأها من الورقة, و كان يبدو مترددا كما لو انه حذف فقرات محددة من القصيدة ... بل كأنه يفهمها تماما ولم يرغب بقراءتها ... لم تكن القصيدة وصفا للمعركة ... بل كانت معركة بذاتها .أما الشكل الفني فلم يكن أقل غرابة من المضمون : الاسم المفرد يحكم فعل الجمع , أحرف الجر غريبة و غير مألوفة , القسوة تختلط بالرقة , التشابيه فوضوية والاستعارات اعتباطية .
        تبادل الملك بضع نظرات مع رجال الأدب الذين تحلقوا حوله ثم تحدث إلى الشاعر قائلا : أستطيع القول أن قصيدتك الأولى كانت خلاصة حقيقية واقعية لكل ما نشر في ايرلندا. أما هذه القصيدة فهي متفوقة على القصيدة الأولى . حتى أنها تتجاوز كل الشعر الذي قبلها إنها مذهلة , رائعة , باهرة وتثير الدهشة ... الجهلة لا يستحقونها بل إنها تلائم القلة القليلة من المثقفين و المتعلمين و لهذا سأضع النسخة الوحيدة من قصيدتك في العلبة العاجية الفاخرة أما القلم الذي كتب به هذا الكلام الرائع فسوف يحتل مكانة أكثر رفعة . وكدليل على استحساننا لما كتبت سنمنحك هذا القناع الذهبي .
شكرا أيها الملك ... لقد أدركت ما تعني لقد أدركت ... قال الشاعر هذا و انصرف مسرعا ... و انقضت سنة أخرى ... وجاء يوم الاحتفال , وحضر الشاعر فلاحظ حراس القصر أنه لا يحمل أية مخطوطة لقصيدته الجديدة . تقدم الشاعر نحو الملك الذي كان ينظر إليه بدهشة وريبة ... فقد تغير الشاعر كثيرا و بدا كأنه يشبه رجلا آخر ... رجلا غير الزمن من ملامحه وبدلها , عيناه غائرتان تحدقان في البعيد . طلب الشاعر أن يحدث الملك على انفراد عندما انصرف العبيد و الخدم عندها سأله الملك : - ألم تكتب القصيدة ؟
نعم أجاب الشاعر ... ثم أضاف بحزن : ماذا لو غضب الرب من قراءتها .
  - هل تستطيع أن تعيدها على مسامعي ؟
  - لا أجرؤ على ذلك ! أجاب الشاعر
  - سأمنحك الشجاعة التي تنقصك .
        عندها قرأ الشاعر قصيدته بصوت منخفض كما لو كلن يتلو صلاة سرية , كانت القصيدة غريبة تتكون من بيت واحد جعل الاثنان يرتعدان .. و بعد أن انتهى الشاعر نظر الاثنان إلى بعضهما وقد علا الشحوب وجهيهما..
        قال الملك : لقد أبحرت في شبابي نحو الغرب وعبرت جزرا كثيرة . في الجزيرة الأولى رأيت كلاب صيد فضية تقاتل خنازير ذهبية وفي الجزيرة الثانية تناولت طعامي على رائحة التفاح السحري , وفي جزيرة الثالثة رأيت جدرانا من نار , وفي جزيرة أخرى رأيت نهرا مقوسا يقطع صفحة السماء وفي مياهه تعيش الأسماك و تبحر القوارب .. لقد رأيت كل هذه العجائب لكنها لا تقارن بقصيدتك التي تتجاوز كل المعجزات ترى أي سحر منحك القدرة على كتابتها ؟
       لقد استيقظت عند الفجر و أنا اردد بضع كلمات لم أفهمها في البداية .. وكانت تلك الكلمات هي كلمات القصيدة, عندها شعرت أنني ارتكبت خطيئة كبيرة ربما لا يغفرها لي الرب ...
        تمتم الملك هامسا : نعم إنها الخطيئة التي اشتركنا بارتكابها نحن معا لقد حصلنا على الجمال المعلوم الذي هو هبة محظورة على الرجال و علينا الآن أن تكفر عن هذه الخطيئة .. لقد أعطيتك مرآة فضية و قناعا ذهبية و الآن هذه هديتي الثالثة لك .. وستكون الهدية الأخيرة , وقدم الملك للشاعر خنجرا حادا وضعه في يده اليمنى ..
          بعد أن خرج الشاعر من القصر الملكي مباشرة قتل نفسه طعنا بالخنجر , أما الملك فقد أصبح شحاذا يجوب ايرلندا طولا وعرضا .. ولم يجرؤ على قراءة القصيدة أبدا . 
 
 
WEBMASTER : AA-ALSAAD
This Web Site Programmed and Written By ABD ALMASSIH JAMIL ALSAAD ..... Copyright 2003 (C) SCOPNET  All Rights Reserved 

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق