الجمعة، 30 أكتوبر 2015

مجلة السنونو ( العدد الأول ) - أبحاث محلية Essais locaux - " لماذا فشل المثقفون العرب" - د. فيليب سالم

مجلة السنونو ( العدد الأول ) - أبحاث محلية Essais locaux
" لماذا فشل المثقفون العرب" - د. فيليب سالم

لماذا فشل المثقفون العرب ؟
 
     الصراع الدائر في الشرق ينصب على ثلاث قضايا أساسية : الارض والنفط والانسان. الصراع على الأرض والنفط ، تراه بوضوح وبالعين المجردة ، لأنه يصطحب معه ضجيج الحرب والدمار . اما الصراع على الانسان، وهو الأهم بين هذه الصراعات كلها ، فقد لا تراه أبداً، لأنه يتم في صمت كبير، ويقود الى صمت أكبر. وها نحن اليوم نسمع ضجيج الأرض بالصراع عليها. ونسمع صراخ الألم من الظلم الذي يغتصبها . الا أنني رغم هذا الضجيج وهذا الألم ، جئت لأتكلم معكم عن قضية أهم من الأرض، عن قضية هي القضية. عن قضية كانت هي سبب كل القضايا. جئت لأتكلم معكم عن قضية الانسان في هذا الشرق العربي . وجئت لأتكلم ايضاً عن الأسباب التي أدت الى فشل جيلنا من المثقفين العرب وخريجي الجامعات في تغيير المجتمع العربي. جئت لأسأل، لماذا لم نتمكن من العبور من "مستنقع الشرق الى الشرق الجديد؟ " .
 
     لم نتمكن من العبور لأننا لم نلتزم قضايا شعوبنا، ولأننا لم نلتزم قضايا الانسان في بلادنا: قضية الحرية، وقضية حقوق الانسان، وقضية العقل وصناعته، وقضية القيم والأخلاق. وبدل ان نصب اهتماماتنا على صنع عقل عربي جديد ينتج منه وعي عربي جديد يبني حضارة عربية جديدة، ها قد أضعنا الوقت في التعبير عن الغضب، وفي تبرير فشلنا بلوم الغرب والعداء له. ناهيك باللوم الذي نلقيه بعضنا على بعض وبالحروب الشرسة التي نشنها بعضنا على بعض. وأرجو ان تفهموني جيداً، فأنا لا أقول أن الغرب بريء من المأساة التي نحن فيها، لأنه بكل تأكيد هو أحد أهم اسبابها، بل جئت لأقول ان مسؤولية الانحدار الى هذه المأساة ومسؤولية الخروج منها هي اولاً وآخراً مسؤوليتنا نحن. وهذه المسؤولية لا تنحصر في القادة السياسيين وحدهم بل تتعداهم الى القادة الثقافيين والاجتماعيين والعلميين، الذين اختاروا ان يتأقلموا مع القادة السياسيين العاجزين بدل ان يثوروا عليهم ، والذين اختاروا ان يتعايشوا مع التخلف السياسي والحضاري والعلمي في مجتمعنا بدل العمل الرصين والمتمرد لتغيير هذا المجتمع. وما يزيد الألم الماً، ان كثيراً من خريجي جامعاتنا، هنا وفي العالم العربي، بدل ان يختاروا ان يكونوا أسيادا أحراراً اختاروا ان يتنازلوا عن أقدس ما لديهم ليتسكعوا على أبواب السلطة وأبواب أصحاب المال.
 
     وتبقى الحرية ـ أكبر وأهم مسألة في هذا الشرق، فإياكم أن تقبلوا دونها، والأفضل لكم أن تدخلوا السجون لأيام او سنين في سبيلها ، بدل ان تعيشوا وتموتوا في اخطر أنواعه، ألا وهو الارهاب الفكري الذي يلف هذا الشرق ويسحق الانسان ويميته؟وماذا قال جبران يا ترى، عندما قال ان من يقتل انساناً واحداً هو مجرم، ولكن من يقتل أمة بكاملها هو بطل؟ فالحرية ليست ضرورية فقط لصنع الحضارة بل ضرورية لتكون الحياة حياة. والحرية التي نطالب بها لا تقتصر على الحرية الشخصية والحرية السياسية بل تتعداها الى حرية المعتقد، الى الحرية في الايمان والحرية في عدمه. ولا أذيع سراً اذا قلت أن أكبر خطر تتعرض له البلاد العربية اليوم هو خطر افراغها من الحرية.
    
     ونأتي الى قضية العقل. العرب مدعوون اليوم لاستعادة العقل، كما كان عند الفارابي وابن سينا وابن رشد. لقد فشل المثقفون العرب لأنهم لم يتمكنوا من القيام بالثورة الفكرية المطلوبة بل لم يتجاسروا على القيام بها لأنه دونها أهوال .
 
     ولتكون هذه الثورة الفكرية، يجب أن لا نقوم بثورة الحديد والنار بل ان نقوم بأحداث تغيير جذري في فلسفة التربية عندنا بدءاً بالمدارسة وانتهاء بالجامعة. يجب ان نعبر من مرحلة التعليم بواسطة  التلقين
الى مرحلة التعليم بواسطة تفعيل العقل والبحث. فالهدف النهائي للتربية ليس المعرفة في ذاتها بقدر ما هو صنع عقل جديد، صنع انسان جديد، وهذا التخدير للعقل كان ولا يزال سبباً رئيسياً من اسباب عدم قدرة الجامعيين على احداث التغيير المطلوب ولكي نتمكن من تحرير العقل وتفعيله يجب ان نحرر النظام التربوي من النظام السياسي والنظام الديني حتى لا يبقى العقل رهينة لأي منهما. من هنا نطالب باستقلال الجامعة عن الدولة.
 
     ونتطرق الى موضوع القيم الاخلاقية والانسانية، لنقول انه لا يكون الانسان انساناً دون القيم، ومن أهم هذه القيم ان يكون الانسان في سلام داخلي مع حقيقته، وان يلتزم الحقيقة وان يمتلك نفسه، كل نفسه. مشكلتنا، وخصوصاً في هذا الوطن الجريح، ان بعضنا حاضر دائماً لبيع كل ما عنده لقاء السلطة والمال. ولا بأس ان باع نفسه او باع الوطن في سبيل الوصول الى مآربه. وما هم ان هو لم يعد يمتلك نفسه، فالمهم ان يمتلك السلطة او المال. كثيرون فعلوا ذلك، ثم اكتشفوا ولو متأخرين، ان من لا يمتلك نفسه لا يمتلك السلطة ولا حتى المال. لذلك اؤمن انه حتى ولو امتلكنا الارض ولم نمتلك انفسنا وحرية قرارنا ستبقى الارض ملكاً لغيرنا.
 
     ان الهدف الاساسي من الجامعة بل من التربية هو صنع انسان سيد، حر، مستقل، ملتزم ومتمرد. وليس عيباً ان تختلفوا في الرأي وفي السياسة، فهنا تكمن عظمة الانسان، إلا ان العيب ان لا تتمكنوا من الحوار العميق، دون عنف. فالاختلاف في الرأي هو صفة الحضارة. الا ان عدم القدرة  على التعاطي مع الاختلاف في الرأي بالحوار هو صفة عدم الحضارة. من هنا ندعوكم الى نبذ العنف والى تعلم فن الحوار، هذا الفن الذي لم يتقنه هذا الشرق بعد ولذلك يبقى الشرق اسيراً للتطرف والعنف.
 
     ونطالبكم بالالتزام ـ التزام الحقيقة والجهر بها. ان تقولوا ما تعنونه وتعنوا ما تقولونه. ان تلتزموا الكلمة التي تقولونها. وان تلتزموا العمل الذي تعملونه وان تتقنوه. فليس هناك فرق بين طبيب ومهندس واداري الا بقدر ما تتقن عملك وتعطيه من نفسك. وأهم التزام نطالبكم به هو التزام صنع مستقبل الوطن، وممارسة السياسة بكل أبعادها وعلى كل المستويات ولكن بأسلوب حضاري. ان ممارسة السياسة ليست فقط حق المواطن، انها اهم واجب عليه. وان لم تمارسوا هذا الحق ولم تقوموا بهذا الواجب، تكونون قد تقاعستم عن أهم واجباتكم وتنازلتم لغيركم في بناء الوطن. هذا سبب آخر لفشل المثقفين العرب في تغيير المجتمع العربي. وندعوكم الى التمرد، التمرد العنيف بدون عنف. ندعوكم الى التمرد على اليأس، الى التمرد على الانحلال والفساد، الى التمرد على ان تصبحوا شيئاً غير حقيقتكم، ذاتاً غير ذاتكم، الى التمرد على حضارة المجاملة والتكاذب والرياء. واهم تمرد ندعوكم اليه هو التمرد على الحاضر لخلق مستقبل افضل، والتمرد على الماضي حتى لا يكبلكم في حاضركم.
 
     ونتقدم من العالم العربي لنقول له: اننا نؤمن، وبكل قوة، بعروبة حديثة علمانية تؤمن بالانسان وحقوقه وحريته. الحرية الكيانية والحرية في المعتقد، بعروبة تؤمن بالعلم وبتحريره من الدولة بعروبة قادرة على التعاطي والحوار مع العالم، بعروبة قادرة على التفاعل مع الحضارة العالمية واغنائها بتراث هذا الشرق. وتجرؤ هذه العروبة، وعلى الأقل في الخمسين سنة القادمة، على احترام سيادة كل بلد عربي واستقلاله وحريته. فالمرتكز الاساسي لهذه العروبة، هو ان الجغرافيا والارض ليستا مهمتين بقدر ما ان المهم قدرتنا على العمل معاً، وقدرتنا على صنع رؤيا عربية جديدة موحدة في الاقتصاد والتجارة والدفاع والسياسة الخارجية، وقدرتنا على التزام استراتيجيا موحدة لتحقيق هذه الرؤيا. لقد أضعنا الخمسين سنة الماضية لعدم الثقة بيننا ولعدم قدرتنا على الحوار. كما أضعناها في نسج أحلام طوباوية من المستحيل تحقيقها.
 
     وأتقدم من كل بلد عربي وأقول له : أننا لن نيأس، فالشمس تشرق كل يوم، ومهما طال الوقت سنبقى ننتظر. في يوم ما، في صباح ما، ستفتح الارض صدرها و"ستقوم". ولكن اياك "ان تغفر لهم" وان ترضى بما لا يليق بك. واياك إياك ان ترضى بغير الحرية التي هي انت، وان ترضى بغير الدور القيادي المميز في الشرق وبغير الحضور الشامخ في العالم. عند ذلك، وعند ذاك فقط يكون مجدك. ويعطى مجدك لنا وللعالم .  
 
   

WEBMASTER : AA-ALSAAD
This Web Site Programmed and Written By ABD ALMASSIH JAMIL ALSAAD ..... Copyright 2003 (C) SCOPNET  All Rights Reserved   

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق