مجلة السنونو (
العدد الأول ) -
فن ونقد
Art et critique
|
|||
الفنان جوزيف طرابلسي
( الفارس النبيل صانع الفخار في عصر الحديد )
- بسام جبيلي
|
|||
الفنان جوزيف
طرابلسي
الفارس
النبيل صانع الفخار في عصر الحديد
إن
أية دراسة نقدية معمقة وجادة لأعمال فنان عـاش أحـداث القرن العشرين على امتــداد
ما يقـارب تسعين عاما. كالفنان جوزيف طرابلسي (1912-2002) تصـبح مسـتحيلة وغير
مكتمــلة خاصة أن الأعمال المتوفـرة لدينا للدراسـة محدودة لا تتجاوز الخمس
والعشرين لوحة المهـداة إلى بلديـة حمص عام 1997 والمعروضة في متحف المدينة , وبعـض
الأعمال المتفرقة المقتنـاة ,أو التي بحوزة الأهـل والأصدقاء, وهذا لا يكفي ولا
يغطي حياة حافلة ومتنوعة وكثيرة الإنتـاج كحياة جوزيف طرابلسي الذي عاش طفولته
الأولى في حمص, وشبابه في مصر , وكهولتـه وشيخوخته في البرازيل . إنـها حيـاة تفيض
بمخزون هائل لذاكرة بصرية اسـتوعبت بيئات مختلفة , فبيئة الوطن الأم كونت إحسـاسه
بالطبيعــة الحمصية بنهرها و بساتينها و أشجارها, لتتحول إلى مصـدر حنـين لا ينضب .
وبيئـة مصر حققــت له الصقل والنضج, والاحتكاك بطبقة مثقفة مضطلعة ومتماهية مع
الغرب . وبيئـة البرازيل أوصلته إلى أسلوبه المميز ووسعـت قاموس مواضيعه , لتشمـل
تصميم وتنفيـذ سقـف وجدران الكاتدرائيـــة الاورثوذوكسية في سان باولو البرازيل .
إنها حياة واسعة ممتدة , عاصرت الأحداث الأساسية الكبرى في القرن الماضي , وشهدت
مولد مدارس فنيــة وموت مدارس أخرى , انـه شـاهد على قرن يعتبر الأكثر تناقضا ,
والأكثر تحولا , شاهد على حربين عالميتين غيــرتا النظــرة إلى العالم والإنسان ,
وأظهرتا مدى هشاشة المدنية الزائفة , وعجز حضارتنا بآدابـــها و فنونها و علومـها
وأديانها أمام وحشية طاغية اثبت التاريخ تأصلها , و بيّن مدى اتسـاع المسـافة التي
يتوجب على الجنس البشـري أن يقطعـها في سبيل الوصول إلى مرتبة الإنسـان كما تصوره
الإغريق القدماء, إنسان الحـق و الخير و الجمال , ليصبح السؤال الكبير عن جوهر
الكائن البشري هو : هل الإنسان كومبيوتر هائل مركب على معمل للقاذورات , أم هو
ببساطة اله صغير يلهو على جبل الاولمب ؟ وعلى ضوء الإجابة عـن هـذا السؤال تتجه
حضارتنا إلى السمو أو نحو الهاوية .
ويبدو أن
جوزيف طرابلسي حسم إجابته ليجعل هاجسه الأساسي , البحث عن الجمال و اعتباره أساساً
لتربية الجنس البشري , فلكل فنان منظومته المختلفة من الميكانيزمات الشعورية
والنفسـية التي تضبط ردود أفعاله تجاه الواقع , والفنان الحقيقي هو من يستطيع كشف
عمـل هذه الآليـات دون أن يختـارها , لأنـها في الواقع هي التي تختاره , وما على
الفنان هنا إلا الانسياق إلى ما يرتاح إليـه بمحبة وإخلاص . وقد عمل طرابلسي ضمن
منظومات متعددة تمتد من العقلانية إلى الذاتية , وجميعها تصب في قالب واقعي واحد
أساسه محبته المطلقة للجمال , وغيرتـه وسعيه لإيصال وتقريب هــذا الجمال إلى
الذائقــة العامة , فالطريق إلى قلوب الناس لا بد أن يمر عبر عيونهم , واحترام
العمل الفني جماليا يجب أن يبدأ بالفنان نفسه لينتشر ويشكل حالة عامة تحكم اللوحة و
تخاطب ضمير المتلقي ووجدانه فيتوصل من خلالها إلى إدراك مكنونات العمل الخفية ويعي
الرسالة التي يريـد الفنــان أن يوصلها إليه . ولكن عن أي جمال كان جوزيف طرابلسي
يبحث ؟ في البداية نحن أمام فنـان يتراوح التشكيل لديه بيـن أسلوبيـن متمايزيـن
واسعي الانتشار , هما الكلاسيكية و الانطباعية , و كلاهمـا أساسي بالنسبة له , فهما
يحققان له حاجة داخلية عميقة تتراوح بيــن الصلابة والليونة , بيــن العقل والعاطفة
, فالكلاسيكية بصرامتها الشكـلية الخطيـة تحقق له الالتزام بالعقـل كـما في لوحــات
البورتريه والعاري . أما الانطباعية بانطلاقها وحيويتها اللونية فإنها تحقـق له
عفويتـه وحريتـه أمام اللوحة , كما في لوحات المنظر الطبيعي و الطبيعة الصامتة ,
ومـن هنـا يصـبح أسلـوب جوزيف طرابلسي ملتبسا , فنظرته الكلاسيكية جعلت مـن الزمـان
والمكان عاملين حياديين بالتركـيز عـلى مثالية شكلية لا تاريخية . وهو ما يتعارض
بشكل مطلق مع نظرتـه الانطباعيـة التي تحتفل بالضوء وتحولاته الآنية كزمان إلى جانب
احتفاظها بواقعية محوّرة تستلهم المكان لا كما يراه بل كمـا يعرفه. انه يعمل في
التخوم الأخيرة للكلاسيكية والتخوم الأخيرة للانطباعية في نفس الوقت , لقـد تعامل
مع كلاسيكية محدثة خرجت عن الصياغة التقليدية للواقع المرئي , و رغم احتفاظه
بالقالب الصارم لبـناء الشكل فانه أضاف الكثير من ذاته وشعوره . و قد تعامل مع
انطباعية تنحو إلى التعبيرية
المتفائلة التي لا
تكتفي بما تراه من أعاجيب الضوء و اللون وما توحي به الطبيعة الخلوية , ليعود
الفنان الى مرسمه ويضيف للوحته أعاجيب العقل والذاكرة .
ولكن كيف استطاع الفنان أن يوفق بين هاتـين النظرتـين المتناقضتيـن ؟ وما هو
العامـل المشترك الذي استطاع أن يحتفظ من خلاله بحيوية و جمال لوحتـه ؟ لقد توصل
طرابلسي إلى هـذا العامل المشترك بعد تجربة طويلة , حين استطاع التقـاط درامية
اللحظـة العابـرة على المستوييـن الكلاسيكي والانطباعي معا , بمعنى انه تمكن مـن
اكتشاف عناصر الصراع الموجودة في الموضوع الذي يود رسمه , وتقديمها بأقل ما يمكن
مـن الوصف أو العاطفيـة المفرطـة , فتوصل ببساطة إلى الجلال الكلاسيكي , الذي يسعى
للتلميح دون التصريح , وفي نفس الوقت كان يكتشف عناصر صراع الزمن الهارب مع تحولات
اللون وتبدلات إحساسنا تجـاه الأشـياء , فتوصل إلى الاحتفال الانطباعي باليومي و
العابر , وبذلك تخلت عناصر اللوحة عن مدرسيتها و جمودها لتكتسـب مزيدا من الحـس
الإنساني الدافيء , و هذا يتضح بلوحة
ديك
الجن الحمصي كمثال حيث استغنى الفنان عن دراما قصة ديك الجن الوصفية والمليئة
بالأحداث التي تغري بالرسم , ليلخص الموقف بلوحة اقرب إلى البورتريه تمثل ديك الجن
في لحظات ندمه الأليم , فهو يلغي الحدث الأدبي ليجسد أثره , انه يحول الواقع المرئي
إلى ذكرى ومن ثم يتعامل مع هذه الذكرى بإعادة إنتاجها بسرعة وانفعالية عالية وفهم
تلقـائي عجيب لتجاورات الألوان , إنها حالة من النشوة وانعدام الوزن هي التي يعمل
فيها جوزيف طرابلسي فلوحته مشغولة بفرح وحب كبيرين يستطيع ببساطة ايصالهما للمشاهد
المهتم .
وقد
يكون هذا هو سر نجاحه في تصوير لوحات البورتريه , هذا الفن الذي لا تنحصر صعوبته
برصد ملامح الشخص المرسوم (وهو ما يستطيعه أي رسام متوسط الموهبة ) لكن الصعوبة
تكمن في الوصول إلى مفاتيح الشخصية المراد رسمها ومحاولة النفاذ إلى خفاياها . فلكل
شخص ثلاثة أقنعـة , قناع ما يعتقده عن نفسه , وقناع يحب أن يظهر به للآخرين , وقناع
ما يعتقده الآخرون عنـه فعلا . ومهمة فنان الصور الشخصية هي محاولة الوصول إلى
توازن بين هذه الأقنعة والخروج بقناع إضافي يرضي به الشخص كزبون , ويرضي المشاهد
العادي المحايد كناقد , ويرضي نفسه في قول كلمتـه دون تزلف أو مراءاة . ومن خلال
هذه التوازنات الصعبة ,كانت لوحات الوجوه الشخصية للفنــان , مرغوبة وناجحة , فقد
تمكن بحكمته ومراسه أن يرسم شخصيات كبيرة كالملك فاروق والملك فيصل ورئيس الجمهورية
السورية شكري القوتلي والعديد من الشخصيات التاريخية المهمة . وهو برسم هذه
الشخصيات اقرب ما يكون إلى الدبلوماسي الناجح لأنه يملك موهبة أن يقول ما يريـد
قوله ضمــن شروط لعبة حقل ألغام هذه الشخصيات الاستثنائية , حيـن استطاع كشف نظرتها
إلى نفسها وما تريد من الآخرين أن يروه فيها . وبقي فنه عند رسم هذه الوجوه متعاليا
, نخبويا ,مثقفا
إن جوزيف طرابلسي من الفنانين القلائل الذين اختاروا الفن مهنة وحيدة لهم في وقت
مبكر وفي زمن كان الاحتراف يعتبر مغامرة غير مضمونة للعيش , ولكنه بإصراره وعشقه
لعمله وباختيار وإتقان مواضيع محددة , خرج بلوحة راقية محترمة بغض النظر عن أهمية
أو مصيرية موضوعها وعن تبدل ملابسات السوق . قد يكون من الظلم الحكم على جيل الرواد بمفاهيم الفـن المعاصر في زمـن تشابكت فيـها المدارس الفنية و اختلطت أساليبها , في زمن طغى فيه حب التفـرد و دافـع الخروج عـن السرب , وتشكلت ظاهرة جديدة طاغية , ونظرة مختلفة عمت الفن الحديث باجمعه . فالفنان الحديث مستعد أن يبدل أسلوبه بأسرع مما يبدل ثيابه و مهيأ لان يحرق المراحل دون أي قلق مصيري في أن يكون مفهوما, فالفن الحديث أعطى هامشا كبيرا للتجريب والابتكار والغموض وتجاوز المألوف. والسؤال هنا : لماذا لم يفكر فنان مثل جوزيف طرابلسي في تغيير المدرسـة التي عمل فيها طوال حياته , فلا محاولات للتجريب ولا مغامرات شكلية بشطحـات خارجة عــن السياق , رغـم استيعابه للفن الحديث ورغم زياراته المتكررة لأكثر من عاصمة أوروبية ؟ يبدو أن جيل الرواد (الذي يعتبر طرابلسي واحدا منهم ) كان أمام تحديات حقيقية , وهذا ينطبق على مختـلف فناني بلدان العالم الثالث , فالفنان كان مضطرا أن يؤسس لفن جديـد غير مسبوق و أن يعمـل ضمن أمـية بصـرية مستحكمة , وهو محكوم بأسلوب واقعي لا بد منه , ومضطر لان يكون مبدعا ومعلمـا وشارحا في نفس الوقت , انه مستعد أن ينزل إلى الجمهور درجة ليرفعـه درجات . لقــد اختار اغـلب الرواد مواضيع اجتماعية أو قومية تهتم بالأحداث الكبرى للأمة
.
لكـن جوزيف طرابلسي اختــار الطريق الأصعب , اختار أن يؤثر عن طريق الفن وحده ,
ورفض أن يكون واعظا أو عرافا , وحاول الحفر في العمق وتجويد فنه ضمن موضوعات قليلة
ومركزة .
وأخيراً إن جوزيف طرابلسي هو فنان حسي بجدارة , فنان فانتــازيا وليس فنان رؤيـا ,
فالموضوع لم يكن يعنيه بقدر ما تعنيه الطريقة التي سيتناول بها هذا الموضوع , إن
همه الأساسي هو اختيار موضوع بسيط , يحوله مع تقدم العمل إلى مضمون فيصبح الاثنان
شيئـا واحـدا حيث ينقلب الموضوع إلى شكل , من خلال التفاعل اللانهائي لعناصر
اللوحة . وهـذا يؤكد حالـة تكرار وإعادة رسم بعض الأعمال لأكثر من مرة لدى الفنان ,
حيث يتحول الموضوع إلى فكـرة ثابتة ينطلق منـها للوصول إلى اشتقاقات أشبه
بالتنويعات التي يجريها المؤلف الموسيقي على لحن واحد , فيؤكد في كل تنويع على حالة
ذهنية و شعورية مختلفة , رغم ثبات الموضوع . ومـن خلال تركيزه علـى التقنية وصل
طرابلسي إلى جوهر وسحر اللون وعن طريق ضربات فرشاته الانفعاليـة النزقـة توصل إلى
تعبيرية مشرقة , وظل على الدوام حاضنا لجمالية أسلوبية متميزة وبراعة لونية لافتة,
حدودها العـقل والحس والعاطفة . |
|||
WEBMASTER : AA-ALSAAD
|
|||
This Web Site Programmed and
Written By ABD ALMASSIH JAMIL ALSAAD
..... Copyright 2003 (C) SCOPNET All
Rights Reserved
|
رابطة اصدقاء المغتربين تأسست عام 1973 وكانت رأيستها الاديبة الراحلة نهاد شبوع وتم اصدار 12 عدد فقط في بيت المغترب في حمص .
الجمعة، 30 أكتوبر 2015
مجلة السنونو ( العدد الأول ) - فن ونقد Art et critique - الفنان جوزيف طرابلسي ( الفارس النبيل صانع الفخار في عصر الحديد ) - بسام جبيلي
الاشتراك في:
تعليقات الرسالة (Atom)
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق