مجلة السنونو (
العدد السابع ) -
حمصيات عتيقة
|
الداعور (
كامل دعدوش )
|
الدَّاعـــــــــور
ها
قد مضى أكثر من أربعين عاماً على ذلك اللقاء الأخير مع جدي. وكان قد تجاوز
الثمانين, بينما كنت أنا في العشرين وكان هذا اللقاء لقاء الوداع لأنّه بعد أيام
غادرنا إلى العالم الآخر.
وليس مهماً أن أصف الهيكل الخارجي لجدّي فهذا إلى زوال, أما بناؤه الداخلي فقد
أحتاج إلى جهد كبير حتى امسك بصفة غير لائقة.... ولو استعرت منهج العقاد في الكشف
عن مفتاح الشخصية بعد تحليل واستقصاء لتوصلت إلى مفهومين يشكلان مفتاح تلك الشخصية
وهما : التقوى والكرم!
وقد
حرصت في ذلك اللقاء على التودد إليه وملاطفته وتقديم بعض الفاكهة المبرّدة.
ومادام الكرم صفة لصيقة بطبعه فقد أراد أن يكرمني بشيء من عنده: قال اسمع هذه
القصة:
قلت: كلي إصغاء!
قال: في الأربعينيات كان هناك مقهى فوق الدكاكين, في آخر سوق الحسبة, مقابل الباب
الغربي للجامع النوري الكبير ـ "وهو نفس مكان مصرف التسليف الشعبي الآن" ـ وكانت
المقاهي تفتح أبوابها بعد صلاة الفجر بساعة تقريباً لأن الناس كانت تنام بعد الغروب
بساعة أو ساعتين نظرا لعدم انتشار الكهرباء أو لعدم وجود ما يدفع للسهر
كالتلفزيون!.
وكان من عادة نفر من علماء الدّين أن يجتمعوا في المقهى بعد أن يفرغوا من صلاة
الفجر وما يتبعها من أوراد واذكار, وكان هذا اللقاء يسمى بالصبحيّة حيث يحتسون
القهوة, ويدخن بعضهم النرجيلة, ولم يكن معروفاً تماماً وبصورة قاطعة الضررُ الفادح
للدخان على الصحّة, لذلك لم يكونوا يجدون حرجاً في تعاطي التنباك!.
وفي
هذا المقهى كان يقوم على خدمتهم رجلٌ يلقّب بالدّاعور ـ ولا أريد التدقيق في المصدر
اللغوي لهذا اللقب ـ وكان هذا الرجل ذا مزاج خاص: يحبّ من يحب ويكره من يكره بلا
مواربة أو دون تقية, وكان مدمناً على الشراب وعلى شيء آخر اكثر فظاعة, وكان لا ينكر
شيئا منه ولا يعتذر عنه بضعف أو توبة مأمولة!
ومن
شأن تلك المقاهي القديمة أن زبائنها قلّما يتبدلون وإذا قدم غريب فإشارات الاستفهام
تبرز وقد ينظر إليه بريبة وشك!
أما
شأن ذلك النفر من العلماء الذين يحظون بالاحترام والتقدير حيثما حلّوا فان
الدّاعوركان بتهيبهم ويدقق في كلماته وتصرفاته معهم.
ولكن لو فكّر واحد منهم أن يمازحه أو يثقل عليه فان الدّاعور يطيح بكل أشكال التحفظ
وقد يتجاوز أحياناً الحدّ المسموح به حتى يلوذ من أثاره بالصّمت والندم!
أما
الذي كان يحبه كثيرا ويبدي له مزيداً من الاحترام والتقدير فهو الشيخ محمود نظراً
لحسن تعامله معه: فلا ينتقصه بالمزاح ولا يستفزه بالتعنيف وإنما هي الملاطفة
والإشفاق والاستيعاب!
وفي
صباح أحد الأيام ... قام الدّاعور على خدمتهم وتأمين طلباتهم لكنه كان فاقد الحيوية
والنشاط, اقرب إلى المرض منه إلى العافية, متبرما, ضائق الصدر بكل من حوله!!
قال
أحدهم: لعلّ كثرة الشراب وتعاطي البلاء مع السهر الطويل أضعف من قواه..
وقال آخر:لعل
قلة الغذاء ورداءته هما السبب...
إنّ
حالته لمحزنة...فما رأيكم لو دعوناه ليجلس معنا فننصحه ونرشده لعلّه يقلع عن تلك
العادات السيئة التي تفتك بصحته!
ضحك
آخر وقال من يجرؤ على مفاتحته بهذا الموضوع .
فرّد آخر لا يحسن أن نتكلم معه كمجموعة بل نختار واحداً منا يحسن التعامل معه
وبالتالي يثق بكلامه, وقد يفلح ـ بإذن الله ـ في ثنيه عما هو غارق فيه!
سارع أحدهم وقال لا يصلح لهذا الأمر إلاّ الشيخ محمود فهو على مودة خاصة معه...
فهتفوا ضاحكين: إنّه لها...إنّه لها..!
فردَّ عليهم الشيخ محمود بالقبول وقال: انظروني يوماً أو يومين حتى أتمكّن من
القيام بهذه المهمة الشاقة....
في
صباح اليوم التالي انفرد الشيخ محمود بطاولة بعيداً عن جماعته, وطلب إلى الدّاعور
أن يجلب له القهوة, فجاء بها..ثم اتجه إلى طاولة أخرى, فناداه الشيخ وقال: اجلس معي
فاستغرب الدّاعور ذلك وقال هذا ليس مقامي..فردّ عليه الشيخ أن اجلس ولا تبالِ...
فجلس متململاً..!
قال
الشيخ محمود مبتسماً: أرى صحتك في هذه الأيام ليست على ما يرام...فما السبب؟
ردّ
الدّاعور: لاشيء لاشيء...دعها لربك!
قال
الشيخ :ألا ترى معي أنّ هذا المشروب الذي تتناوله كلَّ يوم مع هذه اللعنة التي تدخن
هو الذي أضرَّ بصحتك وهدّ من حيلك! أما آن الأوان لتقلع عن كلّ ذلك وتتوب إلى الله,
فالله غفار الذنوب,والاستقامة عين الكرامة!
لم
يبادر الداعور إلى الرّد فوراً بل غلب عليه الصمت والتأمل وكأنه ينظر إلى البعيد
البعيد..
فأراد الشيخ أن ينبهه إلى شروده وعدم سماع أي ردّ..
نظر
الدّاعور إلى وجه الشيخ نظرة ليس من السهل تفسيرها فهي مزيج من الأسف والألم
والتّحدي..ثم قال بصوت متهدج خارج من الأعماق: شيخي.. شيخي لا تعترض..
الله(بدو)يتمم ملكه بالدّاعور!! ثم نهض واتجه إلى (البوفيه).
أما
الشيخ محمود فقد أصيب بالدهشة أو الخيبة لهذا الجواب الذي لم يكن ينتظره, ثم نهض
متثاقلاً واتجه إلى طاولة أقرانه الذين أدركوا أنّ المقابلة لم تكن مجدية.. نظراً
للمدة القصيرة التي استغرقتها!
جلس
الشيخ محمود فانهالت عليه الأسئلة: ماذا حصل.؟ ماذا قال..؟ ماذا كان ردّه..؟
ابتسم الشيخ محمود وقال:لقد أجابني بإجابة لم استطع الردّ عليها.. فدُهش الجميع من
هذا القول وتساءلوا عن تلك الإجابة!
قال
لهم : قال لي شيخي..شيخي لا تعترض.. الله (بدو)يتمم ملكه بالدّاعور!
فوجم الجميع من هذا الرد غير المنتظر والذي يطرح تساؤلات عديدة...؟
****
لماذا احتلت تلك القصة..بل تلك الجملة التي نطق بها الداعور ذاكرتي أربعين سنة,
وصارت جزءاً من ثقافتي؟ هل لأنها صدرت عن جدي وما يصدر عن الأجداد له شيء من
القداسة؟ ولا عجب في ذلك فقوام ديانة اليابانيين تقديس أرواح الأجداد, غير أن الأمر
بالنسبة إليّ ليس كذلك بل شيء آخر...
لعلي وجدت في تلك الجملة موقفاً فلسفياً!
فإذا كان عالم النبات يحتوي على أشجار عالية وأخرى هزيلة, وعلى أشجار مثمرة وأخرى
عقيمة... وحشائش وأشواك ربما لا نحسّ أنها ضرورية كغيرها...
فهل
هذا التنوع المفرط دليل عظمة الله!؟
وكذلك في عالم الحيوان.. فثمة الحصان والذئب والنحل والنمل والحشرات الضّارة..
وأنواع وأنواع متفاوتة في تعقيدها, متفاوتة في وظائفها.. فهل هي تكمّل بعضها بعضاً
؟!
إن
العلم الحديث يتقدم باستحياء للكشف عن العلائق بين مختلف الكائنات الحيّة.. ليظهر
أن ثمّة منظومة متكاملة متكافلة فيما بينها.. وأحقر حشرة بل أحقر شوكة قد يكون لها
دور في التوازن الحيوي ـ البيئي !
أما
عالم الإنسان فهل له شأن آخر ؟
هل
الشرُّ ضروري في الحياة البشرية ليظهر الخير؟!
وهل
الخبيث مطلوب وجودياً ليبرز الطيب؟!
هذا
ما نسمعه أحيانا من بعض (المتكلمين) والمفكرين غير أن الأمر لو كان كذلك.. أي لو
كان الشر ضرورياً ليظهر الخير فهذا يعني أن الضرورة تحتم وجود الأشرار والضرورة
تنفي الحرية.. وبالتالي صار الجزاء ظلماً!؟
أم
هي شطحة من شطحات المُخدرين ندّت من فم الدّاعور بلا وعي ولا تبصر شغلتني سنين
عديدة وما تزال موضع تساؤل؟!
ولكن على المستوى الإنساني أرى أن التفاوت ضروري في الملكات العقلية والمواهب
النفسية والخبرات العملية حتى يستقلَّ كلُّ واحد منا باختصاص يحتاج إليه الآخر
سواءً أكان الآخر في أعلى درجات العبقرية أم كان في أدنى مستويات الذكاء!
و
العامة يقولون باختصار جميل:
(صاحب التاج محتاج) ويقولون أيضاً (كلُّ ديك على مزبلته صيّاح).
|
WEBMASTER : AA-ALSAAD
|
This Web Site Programmed and
Written By ABD ALMASSIH JAMIL ALSAAD
..... Copyright 2003 (C) SCOPNET All
Rights Reserved
|
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق