الثلاثاء، 17 نوفمبر 2015

مجلة السنونو ( العدد السابع ) - بلاد الجدود - مشهد ( نهاد شبوع ) + عصر الفقيد ( نبيه سلامة )

مجلة السنونو ( العدد السابع ) - بلاد الجدود
مشهد ( نهاد شبوع ) + عصر الفقيد ( نبيه سلامة )
 (مشهـــد..)
(مدخل إلى مقال "نبيه سلامة" في رثاء المعلم داود قسطنطين الخوري)
 
 نهـاد شبـوع
 
 
            مشهد من ماضٍ ما مضى.. نضيئه لقراء "السنونو" ذكرى بنفسج حييّ.. وحكاية جذور حمصية أمرعت على عتبة أفق جديد، مستأنسين بالعدد (6) من مجلة "الكرمة" المهجرية العتيقة المؤسسة عام 1914 على يد المعلمة الحمصية الأديبة "سلوى سلامة" في سان باولو البرازيل.. صوتَ حقٍ وشوق حضارة وتاريخ.
            كان عدداً قد خصّص لزهور كلمات باكية تنضفر أكاليل تقدير وتذكير ووداع للمعلم الراحل الكبير داود قسطنطين الخوري، المتوفي في أيار 1939، ومن ينسى شذى أزاهير هذا المعلم التي عبّأت المكان ونشقتها حمص فانتعشت وانبعثت من رماد أيامها وأحجار قبرها ؟!
            وكل هدفنا من هذا التجديف الخلفي نهلة نقية نتساقاها من دنان مهجرية أصيلة عصرها فرسان مهاجرون من المدينة الصغيرة، سافروا من غير أن يسافروا.. فظلوا في سمائها عالقين، حضوراً لا يغيب..!!
            بل كل هدفنا أن نستعرض أيضاً معاً قطعة تاريخ حمصي، كان داكناً مهمشاً، أنشق شيئاً فشيئاً عن قوس قزح سماوي، منه انداح نور خجول رحيم، ما عتم أن صار طلائع إيقاظ وإنقاذ عملاً في المدينة النائمة دفعاً ونهوضاً نقلة نقلة.. مستحضرين في الحالين وجهاً أنيساً حبيباً طيب الإشراق دفاق الأشواق كثير الوفاء للبلد المتروك والأهل ومغاني المنى والعمر..!!
            وجه الشاعر الحمصي الألوف نبيه سلامة ـ طيب الله ثراه ـ الذي هو ذاته سيطوف بنا في أعماق زوايانا الحمصية النائبة في الزمان،  كي تعصي على النسيان، عسانا نتلاقى بقامات مَنْ غزلوا لحمص أول خيط شعاع انتسج لها عباءة نور دثّرت عريها الثقافي.. وأنعجن قرص قمرٍ همى عليها مناً وسلوى وبشائر فجر يولد ويتسع ويشع..
            نبيه سلامة: يا محيي كل هؤلاء أيها المحب حتى نكران الذات! أعارف أنت مدى حاجتنا إليك في هذا "الآن" المتحجر المكفهر وحشةً.. وخيبةً.. وقطيعةً.. وتنكرَ قريبٍ لقريب وجسرٍ لعابر مشوق صديق..!!
أدارٍ اليوم بتكسر الأيام والدروب أمام أقدام تمشي وكأنها تغلط بالدرب إلى المحبة والحنان المجانيين.. بل حتى إلى السلامة والطمأنينة!؟
نبيه سلامة ما أشد عطشنا إليك..! إلى نبل قلبك وجوهر لبك.. وسعة صدرك.. عد إلينا قطرة تنعش، ولو خلسة.. إن لم تعد حلماً إنسانياً عذباً بات في عالم اليوم محظوراً مزدرى.. أو دفقة عاطفة صادقة أضحت على صاحبها وصمة عار يخبئها ولطخة جنون، يستحي بها، بل موضع هزء ونفور ونبذ..
نبيه سلامة: كن ظاهرة تتكرر لشاعر إنسان طيب معاصر نقي صادق منفتح ببراءة على الآخر.. كن في قلب سنونونا ساكناً وبه إلى الأبد مسكوناً.. نبيه سلامة: لا تمت عنا بالموت رجاءً..!!
 
*          *          *
كلمة "نبيه سلامة" التي أضاءت المشهد المذكور وقد جاءت بعنوان:

    عصر الفقيــد
نبيه سلامة
 
           

 

قبل أن يأتيكم الخطباء بحياة الفقيد، وصفوة أعماله، وجهاده في سبيل التعليم لا بدَّ لي من كلمة تمهيدية لعصر الفقيد ونشأته لتكون معواناً للسامعين على تقدير الرجل العامل.
            فاتركوا سان باولو وعودوا معي إلى حمص ولنرجع بالتاريخ القهقري حتى نبلغ عام ألف وثمانمائة وسبعين.
            البلد لا يزال يئنُّ من وقع ثورة الستين، فالمسيحيون قابعون في عزلتهم، والمسلمون ناقمون على نفر من السوقة خارج حمص أساء إلى عواطف الفريقين المتحابين ويتمنون على الفرص أن تعيد للنفوس طمأنينتها.
            وفي هذا الجو العاصف كان فتىً يافع يقود صبياً من يمناه، ويخترق به أحياء المدينة خشية اعتداء معتدٍ. حتى إذا وصل به باباً ضيقاً ينداح في داخله عن بهو رحب، تغمره الطنافس الثمينة، وتزين جدرانه الآيات الكريمة، احتفى الصبي ومشى خافض الرأس يسترق اللحظ خلسة إلى الزاوية، حيث جثم شيخٌ معمم، وعندما يشعر بمداناته يقع على ركبتيه ويلثم يده، ويظل ساجداً منحني الرأس والشيخ يتلو عليه آيات اللغة من صرف ونحو وبيان والصغير يلتقط ما يستطيعه دون أن يبدي حركة أو يسأل أو يستفهم، لأن الرعشة التي أوجدتها الثورة تأخذ عليه الجرأة، والشيخ مسترسل في شرحه لا يدرك ما يدور بنفس الصغير، حتى إذا آذانه بانتهاء الدرس لثم اليد من جديد ونهض وأقفل يتعثر بالسجاد إلى الباب حيث ينتظره الشاب.
            وكان الشاب إبراهيم الحوراني، والصغير يوسف شاهين وقد كان والده حائكاً للشيخ فأنس في الصبي نجابة فحبب لوالده الدرس، وابتدأت حياته التعليمية، وإذ خشي الوالد وعورة المسالك أصحبه بصانعه إبراهيم.
*****
            لنترك يوسف وشيخه ولنلتفت لناحية ثانية من البلد حيث الصغار يهزجون، وبينهم صغير مكتوف اليدين وعليه الثياب المزركشة وأمامهم جلف خشن، يهشُّ عليهم بعصاه كلما توقفوا عن الإنشاد، وأهل الحي من الجانبين يرتعون الكوى بالمحاجر.
            فما للصبية والشيخ؟ وما لتلك الضحية بينهم، ألبسوها الدمقس وكبلوها، فكأنها زنوبيا عندما قهرها الرومان، مكبلة وإنما بقيود ذهبية.
            وظل الأولاد في أناشيدهم والعجوز يتقدمهم حتى بلغوا داراً خفَّت لاستقبالهم، فنساؤها تزغرد ورجالها تهلل، وهنا تقدم الشيخ من السجين الضاحك وفكَّ عقاله وسلمه لأبيه مهنئاً بنابغة أقرانه. ونال ما يتكافأ مع جهاده. وعاد مع الجيش اللعوب. وتربع الصغير في المنزل تغمره القبلات وتعلق به الأبصار.
            وكان صغيرنا حبيب سلامة وقد أكمل المزامير والأكيتو خوس. وهما غاية ما عرفه ذلك العصر من العلم. فاحتفى به أستاذه ورفاقه كأنه عائد من الجامعات الكبرى.
            وكان في ضيافة البيت قس بيروتي فهنأَ والد الصبي بين المهنئين وأثنى على ذكائه. ولكن الوالد لم يشأ أن يترك الفرصة تمرُّ ما لم يأتِ بالبرهان. فدعا أبنه للقراءة. فهبَّ حبيب فرحاً طروباً وتناول الكتاب وقرأ بصوت رزين ونبرات عالية، وهو بين الفينة والفينة يحدق بالضيف تيهاً ويتلدد خيلاء.
            ولما سأل الأب ضيفه عن رأيه بالغلام أجابه بلا مبالاة أنه يلحن كثيراً.
            ـ وما اللحن؟
            ـ هو تغيير أواخر الكلم خلافاً
             للقواعد
            ـ وما السبيل لتجنب ذلك؟
            ـ في الصرف والنحو
            ـ وأين يكونان؟
            ـ في ألفية أبن مالك
            سمع حبيب ذلك فأخفض رأسه واغرورقت عيناه بالدموع وانزوى عن الأبصار لا يكلم أحداً حتى ذهب والده يرتاد المكاتب الإسلامية وأبتاع له ألفية بن مالك.
            فأستظهرها الصبي برغبة أكيدة، وأعقبها بشرح أبن عقيل ولكنه ما كان يستطيع أن يميز بين الفاعل والمفعول والاسم والحرف وليس في محيطه من يدله على ذلك.
            فلنترك حبيباً يتصارع مع الألفية ولنجل في ناحية ثانية من البلد.            
*****
            في البهو رجل جليل وزواره كثر، هذا يتطلب حل قضاياه، وهذا يودُّ أن يعرف مصير دعواه وذلك يتطلب الملح والحديث العذب.
            وفي الغرفة المحاذية صغير تغمره أكداس الكتب يتناولها ويقلب في صفحاتها لاهياً، وتنقلب مع الزمن الهيته إلى رغبة في استنباط مكنوناتها. وتحمله الغيرة على ذلك وهو يصبو للمكانة  التي يتمتع بها والده ويودُّ لو كان عالماً أذن ليكفى أباه مؤنة السائلين. وأنى له ذلك والأب في العمل الشاق يودع آحاداً ليستقبل عشرات والصغير كلما سنحت له الفرص يسأل الأب عن هذه وتلك والأب يجيبه باختصار لا يبلُّ اواما، ولا ينقع غلة، وكثيراً ما يغيب الأب عن البلد لأعمال قاهرة فيقبع الصغير بين كتبه يغالبها وتغالبه وهو في كل ذلك جلود صبور لا يرتدُّ عنها ما لم يقهرها.
            فرجلنا هذا هو قسطنطين الخوري. وكان يتعاطى حل القضايا الحكومية ويسافر لأعماله التجارية وصغيرنا هو داود الخوري الذي نجل ذكراه اليوم.
            ويشبُّ صبياننا ويدخلون في معمعان الحياة فتجمعهم المقادر في مكان واحد. ففي دكان حقير كان داود الخوري يعمل في دوارته، وإلى جانبه حبيب سلامه يحيك في نوله. وفي الشقة الثانية من الدكان يوسف شاهين يحيك في نوله أيضاً. وقد فصل بينهم جدار وقرَّبت بينهم نافذة كبرى فكأنهم في مكان واحد.
            ويتعارف الثلاثة، وتشتد بينهم أواصر المحبة وتربطهم المعلومات الضيقة التي التقطوها.
            فيتقدم يوسف شاهين بمعلومات شيخه المشوهة لأنه حفظ شيئاً وغابت عنه أشياء. ويتقدم حبيب بألفيته العجماء ويأتي داود بذخائر كتبه المغلقة، وتبتدىء فيما بينهم ساعات الاستقراء والاستنباط.
            وكانت أجواء الجهل تهيمن فوق البلد والمدارس كتاتيب حقيرة توصل طلابها للاكتويخوس والمزامير والمسلمون يمتازون بشيء من الصرف والنحو.
            فلمع نجم شباننا المجتمعين، وأخذت تتحدث بهم المجالس ولاقوا من المعارضة والكيد ما يتعرض له كل مصلح، ولكنهم صبروا على ذلك وملكوا ناصية اللغة وتعدوها للرياضيات والتاريخ والأدب.
            وأنس فيهم رجال الطائفة هذا الاجتهاد فاستدعوهم لتسلم مقاعد التدريس. فنزلوا عند الرغبة الملحة وتخلوا عن أعمالهم اليدوية وباشروا بالعمل الفكري المنتج، وهدموا الكتاتيب الرثة وأبدلوها بمدارس رسمية وأنفرد كل منهم بناحية. فالأستاذ يوسف شاهين للآداب والنحو، والأستاذ داود الخوري للرياضيات والموسيقى والأستاذ حبيب سلامه للصرف والتاريخ والإدارة، وصمدوا مجتمعين للانتقاد والتهكم وسارت السفينة باسم الله مجراها.
            وجاء المطران اثناسيوس عطا الله، وأشرف بنفسه على هذه الحركة المباركة وغذاها بتنشيطه واهتمامه.
            واستلمت الجمعية الفلسطينية الروسية المدارس في حمص وظل أصحابنا الثلاثة دعائمها.
            فهل كان عملهم مثمراً ؟؟
            لنترك حمصاً في عصرها ذاك ولننتقل فجأة إلى عام ألف وتسعمائة وأثني عشر ولنسمع المحامي البيروتي عزيز عوض يتكلم:
            جاءت سورية بعثة فرنسية لتدرس حالة البلاد العلمية، وبعد أن درست ملياً أعطت تقريرها. فكانت بيروت البلد الأول في العلم وحمص البلد الثاني. وقد دهشت الأوساط العلمية لهذه النتيجة، فأين بقية البلدان السورية التي تغص بمئات الألوف؟ وأين معاهدها؟ وأين معلموها؟.
            كل تلك البلاد كانت في مستهل حياتها العلمية وحمص بلغت مكانتها السميا بفضل أبطالنا الثلاثة.
            ولنترك حمصاً عام 1912 ولننتقل فجأة إلى عام ألف وتسعمائة وأربعة وعشرين ولندخل أحدى مدارسها ولنسمع تلاميذها ينشدون:
 
ذكر دار العلم هذي              طبـق الآفــاق
في فلسطين ومصر              وحمى العراق
فبنــو لبنان والشـام               لهـــــم رفــاق
فيك يا حمص العدية             منبت الأخلاق                  
 
       ولم يكن النشيد مبالغاً، ولا متعصباً لحمصيته بل هي الحقيقة الراهنة، فحمص أصبحت محجة الطلاب من مصر وفلسطين والعراق والموصل وكافة أنحاء سوريا ولبنان.
            ولو بحثنا عمن أوجد تلك الحركة الفكرية الجبارة لرأينا أمامنا صبيتنا الثلاثة: يوسف، حبيب، داود. اللذين كابدوا شتى الآلام في الحصول على الدرجة الأولى.
            وفقيدنا الذي نحيي ذكراه اليوم هو واحد من الأشعة الثلاثة التي أذابت نفسها لتنعش أمتها، وسيسمعكم الخطباء قسطه من الجهاد.
            ففي ذمة الله الأستاذ الراحل وعزاء يا حمص.
 
*          *          *
نبيه سلامة (1908ـ1994): شاعر حمصي هاجر إلى البرازيل عام 1936، وظلت روحه في حمصَ هائمةً.. له ديوانٌ شعريٌ جميل طُبع في البرازيل تحت عنوان (أوتار القلوب) مع مؤلفات أخرى. 

 
 
WEBMASTER : AA-ALSAAD
This Web Site Programmed and Written By ABD ALMASSIH JAMIL ALSAAD ..... Copyright 2003 (C) SCOPNET  All Rights Reserved 

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق