الثلاثاء، 17 نوفمبر 2015

مجلة السنونو ( العدد السابع ) - أبحاث - حضارة الطين ( شاكر مصطفى )

مجلة السنونو ( العدد السابع ) - أبحاث
حضارة الطين ( شاكر مصطفى )
 
           قصة هذا البشر تبدأ في الطين و في الحمأ المسنون ! هكذا رووا لنا عن جدنا العتيق آدم , الذي صاغه الباري من تراب ثم ألقاه إلى كتلة الطين هذه , التي يدعونها الأرض , ليعيش هو والقطيع الضال من انساله على الطين وفي الطين .
            ويخيل إلى أحيانا أن اللعنة التي تلاحق البشر منذ عهــد الخطيئــــــة الأولـــــى و الفردوس المفقود ما هي في قواقعها إلا ذلك الإطار من الطين  , طين الأرض , الذي ضرب حول الإنسان وحدد مدى يده  و بصره . فهو لا يرى ما في السماء إلا من خلال الطين ولا يبني حضاراته إلا على الرمال ولا يقيم مفاهيمه الكبرى إلا في الوحل والتراب . وتمر أمامي هنا في عرض كعرض أعياد المساخر , ملايين المجلدات التي تروي لي ولغيري تاريخ البشر و أخبار الذاهبين الأولين وقصص الحضارات العلى و أحوال الذين تركوا ...   في الدنيا دويا كأنما          تداول سمع المرء أنمله العشر
         فلا أرى من ذلك جميعه سوى صورة واحدة مكرورة : صورة هذا الحيوان الذي وقف على ساقين و لكن ما انفكت عيناه تبحثان عن الطعام في الأرض و يداه تعملان على تكويم التراب أكواما يدعوها مدنا ! وليس بعد ذلك شيء , سوى بعض اللغو الذي يدعونه فكرا و أخلاقا و فلسفة و عقائد و علما ...
         قد تروع هذه الصورة العتمة بعض المؤمنين بالتقدم الإنساني المستمر , والذين يتصورون الإنسانية صاعدة على درج : أقدامه في الأرض وفروعه تداعب النجم وتطل على الملأ الأعلى . ولكني أؤكد أني نزعت , قبل أن أقول هذا نظاراتي السود . و ليس الذنب ذنبي إن كان الواقع مكفهر اللون جهم الانطباع ! . ثم أني بعد هذا لست اكره كثيرا أن أعارض أنصار التقدم الإنساني هؤلاء , و لعلي بالعكس أجد ما يغريني بأن أعلن عند أنوفهم أني لا أؤمن بهذه الفكرة التي اهترأت من القدم والتي حالت براس بهلوانين من بهلوانات الفكر في القرن الثامن عشر فما برح الناس وما زالوا وما انفكوا وما برحوا ... الخ يجترونها من بعدهم إلى اليوم . أني لا أجد كبير فرق بين تلال التراب التي بناها البشر في أدنى العراق ليعيشوا منذ خمسة آلاف سنه , وبين عمد الفولاذ التي تحك صدر السماء فــــي نيويورك و موسكو اليوم . ومن تراه يقنعني بأن المغولي الوحش جنكيز خان الذي أخرج أهل بخارى منذ ثمانية قرون إلى ظاهرها فذبحهم جميعا وهم مليون و نصف المليون هو غير ترومان الرئيس الأمريكي المبجل الذي أباد هيروشيما و أهلك أمس مدينة بأسرها في كوريا و وأي فرق ترى بين الإسكندر ذلك الجزار الكبير وستالين أو بين يوليوس قيصر ذلك المهرج الشعبي العتيق وتشرشل ؟ وأي فرق ترى بين الذين أعلنوا البيان الثلاثي القاضي بتسليح العرب و اليهود معا وبين أباطرة روما الذين كانوا يسلحون العبيد في الملاعب ليلهوا بقتل بعضهم لبعض ؟ ثم ماذا أفادت البشرية من انهار الدماء التي أراقتها آلاف الأجيال في الحروب ؟ وهل منعها ذلك في أن تعود فتحكم في خلافاتها ذوي الخوذ الفولاذية وذوي النجوم و الشرطة على الأكتاف ؟ وأخيرا من يستطيع أن يؤكد لي – وهو الأهم عندي – أن إنسان هذا القرن الذي ركب الطائرة و استعمل الكهرباء و استكانت له القوى الذرية .. هذا الإنسان هو أسعد من إنسان الغاب و أكثر طمأنينة .
          قد يكون هناك تغير في طرق الحياة , في الرفاه و الدعة الجسدية و في الغرفة المكيفة الهواء وفي يوم العمل ذي الساعات الثمان وفي عيش السوري على قمح استراليا و الأمريكي على بترول العرب , تغير في كل شيء يأتي به المال و يرفه به الجسد و المادة , ولكن ليس في النفس والخلق و ليس في الشيء الذي يسمو فالإنسان و يجعله أجدر بحمل صفة الإنسانية . ليس ثمة تقدم مطرد . لقد طردت هذا الوهم من نفسي منذ زمن فالإنسان الذي يلبس البنيقة المنشاة و يقبل يد السيدة في حفل الاستقبال ما زال نفس الإنسان الذي كان يغطي الشعر الكثيف جسده و يلتهم أخاه الضعيف في عطفة الكهف ! .
         ولعل الأصح أن نقول إن ثمة تطورا مطردا فما في التطور شك و الحياة ما دامت مستمرة فهي في انتصار دائم على الدوام أي في إبداع وتجديد مستمرين .. في تطور . وليس من الضروري بالطبع أن يكون لهذا التطور اتجاه حتمي دائم سلبي أو إيجابي , إلى أمام أو إلى خلف و لسنا نحن على الأقل الذين نعرف له اتجاها ! و إلا فمن يضمن لي أو لغيري لأنه ليس سيرا إلى يسار أو ليس بدوران لولبي أبله في فنجان ؟ 
        لهذا أجدني ابتسم كلما رأيت عقيدة من العقائد تحاول أن تأخذ الشكل المهيمن و كلما رأيت حضارة من الحضارات تطمح لأن تعتبر نفسها الحضارة النهائية أو رأيت حقيقة تريد أن تقنع الناس أن ليس بعدها من حقيقة ... إن التاريخ , هذه المقبرة النتنة , ليقيء بجثث العقائد و الأعمال و الرجال ممن انتهت إليهم الدنيا و القمم و ليس لهم اليوم في المقبرة سوى أسطر كشاهدة القبر عليها الاسم والعمر و طلب الغفران .
         و المحاولات الكبرى التي رفعت بها الإنسانية رأسها إلى السماء ســــجلها موســـى و عيسى و محمد في الديانات السماوية الثلاث وزاراداشت في عبادة اهرمن و بودا و براهما و كونفوشيوس في مباديء السلام و المحبــــة و الخير التي بشروا بها . و لكن هذه المحاولات العميقة الرائعة تختنق اليوم أمام تيار الحضارة الني يعتبرها الناس قمة التقدم الإنساني وهي أقل الحضارات محاولة للسمـو و أضأل المدنيات تطلعا إلى ما وراء المادة واسمحوا لي أن أقف عندها فهي الآن حضارتنا نحن أيضا . و أزمانها أزماننا نحن ! لقد أغلقت الباب الأزرق المرصع بالنجوم باب السماء منذ أيامها الأولى , في عهد النهضة , حين بدلت طريق المعرفة و اتجهت لبحث العلائق بين الأشياء بدل البحث عن ماهياتها ... قامت دون مثل أعلى . وربطت نفسها إلى الطين و المادة و الجسد أفعجيب بعد هذا أن نراها تتخبط في الأزمات الفكرية الساحقة بين حين و آخر ؟ 
           لقد بلغت حضارة الغرب أوجها ووصلت قمة الفرح و التفاؤل في القرن التاسع عشر ولكنها منذ مطلع القرن العشرين جعلت تعاني أزمة في الروح تستطيع أن تسبر أعماقها السوداء عند أمثال كافكا و تزفايغ و في الوتر الحزين الذي عــزف عليه شوبنهـــــور و سارتر . إنها تألم لأنه ليس فيها من فكرة قائدة موجهة . إن الإيمان بالقيم و تقديسها فكرة شرقية تجدها لدى العرب و الهنود و الروس كما أن الثقة بتقدم البشرية فكرة أمريكية أما أوروبا خاصة فلا تؤمن بشيء أو فلنقل أنهـــا لا تؤمن إلا بالمغامرة و السعي وراء المجهول . لا تدري أين تتجه و لكنها مملوءة جنونا بالسير و يقتلها التوق للاكتشاف . إن كولومبوس و باستور و كانت و داروين كانوا يعرفون من أين يبدأون أكثر بكثير مما كانوا يعرفون أين يقصدون .
          وحضارتنا تألم أيضا لأنها فشلت في كل شيء عانته فشل العلم الوضعي فشلا نهائيا لا كموقف فلسفي و لكن كحقيقة لا يأتيها الباطل و نبت فشله في صميمه كما تنبت بعض الأزهار البرية من قلب الصخور .
          وفشل العقل ذلك المهيمن البارد الذي لا يشاركه أحد سلطته : فشل بمنطقه و أقيسته و تجريده و ظله الثقيل . و صبية الفكر يعرفون اليوم أنه الحصن الوحيد للمعرفة  !
          و فشلت العقائد , نعم العقائد ! وما في الناس اليوم من إنسان يستطيع أن يبين لك بدقة ما يؤمن به هو نفسه وما يجب أن تؤمن به وما هو جدير بالاحترام الأزلي من ضروب الإيمان
         وأخيرا فشلت القيم الأخلاقية وقد أضحى من المبادئ الكلاسيكية المقررة أن هذه القيم نسبية تتطور و تتغير وتهبط وتعلو وينخر فيها السوس أيضا و تأوي الجرذان !
         أضف إلى كل هذا أنه لم يعد ثمة ثوان توازن بين مستوى البشر الروحي و مستواهم المادي " فهذه الآلات التي تتحرك اليوم بالنفط والفحم قد وهبت الجسد امتدادا هائــل الســـعة و القوة كما يقول بيركسون – ولكنه غير مناسب مع سعة الروح وقوتها لأن هذه الروح أصبحت بالنسبة للجسم المادي المسيطر ضعيفة جدا لا تستطيع أن توجهه و أضحت صوفية الفكرية أضأل بكثير من مادية الآلة . و اتسع ما بين الشقتين فراغ ما يزال يفغر فاه يوما بعد يوم وفي هذا الفراغ تكمن المأساة الكبرى  لهذا العصر . و إذا كان يكفي الإنسانية عدد معدود من العلماء لمنحها القوة الهائلة فإنها على ما يظهر تحتاج لآلاف من الحكماء ليجعلوها جديرة باستعمال تلك القوة .
          إن صيحات القلوب المنسحقة تتعالى بقوة يوما بعد يوم و الكثيرون نعوا الحضارة الحالية للناس و أعلنوا على – الإصلاح السياسي –  بدء النهاية منذ اشبنغلر صاحب (انحطاط الغرب ) إلى غروتيه ومن بندا صاحب (خيانة الاكليروس ) إلى مالرو وباربوس , إلى الانكليزي هكسلي , إلى الأسباني أورتيغا أي كاسيه . كل هؤلاء كانوا أبواقا تنشر الذعر و الخوف . حتى غدا العالم وكل من فيه خائف يترقب . لقد جعل العلم منا أنصاف آلهة قادرين على أشياء كثيرة قبل أن نستحق أن نكون بشرا . وهذا هارول أوري كاشف الهيدروجين الثقيل و حامل جائزة نوبل  و أحد الذين عملوا للقنبلة الذرية يقول في فقرات غريبة التجهم والسواد : " أكتب لأخيفكم.. أنا نفسي خائف .. كل العلماء الذين أعرفهم خائفون .. الأرض دار الرعب هكذا أين تسير ؟ " و يكاد المفكرون اليوم يعيشون في شبه دوامة من الأحداث أسرع من أن تسمح لهم بالوقوف و النظر إلى الوراء , وإذا كانت سرعة الحضارة الحالية من القوة بحيث تجعلنا تعيش قرونا عديدة في سنين معدودة فالكثيرون يخشون بسبب هذه السرعة نفسها أن تأتي النازلة فجأة بالحضارة فتختم حياتها العنيفة الخصبة في ما يشبه الانتحار تماما كما ينحني الافعوان بنابه على بطنه فيعضه منتحرا عند الجوع . إن الإنسانية اليوم كذلك المجنون هنري الرابع بطل مسرحية بيرانديلو الكاتب العالمي . تتبع المسرحية فلا تدري أهو مجنون فـــــــــي رداء عاقل أراد أن يعيش جنونـــه . و الإنسانية اليوم أضاعت حس التفريق بين الحق و الباطل , بين الخير و الشر , بين الجمال و القبح لكثرة ما ارتسم أمامها من دروب متشابكة. أتراها بلهاء وتتصنع الوعـي و العقل أم تريد أن تعيش جنونها ؟ لست أدري و لكني أعتقد أنا لسنا بحاجة لعيون كبيرة كيما نرى أن الإنسانية اليوم تهمل مشاكلها الأساسية و تهدئ من جنونها في النضال اليومي وفي تفاهات الخلافات السياسية كما يهدئ الملك لير في مسرحية شكسبير الشهيرة جنونه في العاصفة .
          لقد بدأت قصة الإنسانية في الطيـــــن و استمرت كذلك و أنا واحد من ملايين يخشون أن تنتهي هذه القصة الكبرى في الطين أيضـــا و أيضا .   
 
       
 
WEBMASTER : AA-ALSAAD
This Web Site Programmed and Written By ABD ALMASSIH JAMIL ALSAAD ..... Copyright 2003 (C) SCOPNET  All Rights Reserved 

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق