الثلاثاء، 10 مايو 2016

مجلة السنونو ( العدد الحادي عشر ) - حمصيات عتيقة - بين الحهد والتعب ( بقلم : نقولا زيات )

مجلة السنونو ( العدد الحادي عشر ) - حمصيات عتيقة   
بين الحهد والتعب ( بقلم : نقولا زيات )

بين الجهد والتعب
بقلم: نقولا زيات
 
 
قبل ما يزيد على نصف قرن حدثنا معلمنا الأستاذ منير خوري "أبو عيسى" قال:
ينهض عساف "العتال" صباحاً، يغسل وجهه، يمشط شعره، ويفتل شاربيه، يلبس سرواله الأسود ويلف حول خصره الشملة "الغباني" ويعتمر طاقيته المغبرة وينتعل شاروخه التدمري متوجهاً إلى سوق الحشيش. يلتقي عساف زبائنه الواحد تلو الآخر:
أبو هشام وقد اشترى البطاطا والكوسى والبتنجان والفليفلة والبندورة تحضيراً لمحشي البساتنة. يضع عساف هذه الخضار في كيس كبير من الكتان الأسمر ويضع البندورة في السلة خوفاً من أن "تنفعس" في الكيس. أما ابراهيم فقد اشترى الفاصوليا "البادرية" والتين في السلة. ام فاتح أوصت ابنها أن يشتري العنب والعدس والأرز والبصل لطبخة المجدرة. يضع عساف العدس والأرز والبصل في الكيس ويضيف العنب إلى السلة المخصصة للخضار والفواكه النزقة. لقد اكتمل الحمل وقد وصل إلى المستوى المطلوب. (هنا يكون الأستاذ منير قد سجل الكميات التي ذكر في جدول ذي ثلاثة حقول خصصها بالترتيب للزبائن الثلاثة في خطوة تنظيمية تغطي هدفاً تعليمياً هاماً). يتوجه عساف إلى المنازل الثلاثة حيث يسلم الأمانات إلى أصحابها. ينتهي يوم عساف بعد أن يعود إلى السوق ثلاثاً يجمع في كل مرة الكميات المشتراة ليوزعها (وهنا يتوجه الأستاذ منير إلى اللوح مجدداً ليقوم بعملية جمع للكميات الموزعة وكأنه يخطو نحو حل مسألة في الحساب) يشهق بعضنا تعجباً وإعجاباً بما قام به عساف من جهد خلال يومه.
يفتح عساف باب داره "بالساقط" الذي ربطه إلى خيط من "القنب" يتدلى من شملته ويدخل البيت منادياً... يا أم عدنان.. (شوية مي عملي معروف). تحضر أم عدنان طاسة نحاسية مبيضة كبيرة فيها ماء سكبته من الجرة المركونة في زاوية عتبة المطبخ، وقد تستبدل أم عدنان الطاسة بالإبريق الفخاري الذي يشرئب على المصب فوق حق صغير من الفخار وقد رش بالإبريق بقليل من الماء الذي يعطي عند تبخره ماء الإبريق بعض البرودة المنعشة. يرفع عساف الإبريق ويميل برأسه إلى الخلف ويميل الإبريق بزاوية معينة لينساب الماء من زلومة الإبريق الإبريق إلى فم عساف وقد فتحه يملئه وينتقل الماء إلى زلعوم عساف ويشكل الثلاثة: (رأس عساف المائل يوازيه الإبريق المائل وقد قطع خيط الماء المنساب المتوازيين الإثنين، بديهة إقليدس الخامسة (المتوازيان والقاطع). ويصدر صوت القرقعة.. إنه يشرب.. "هل تسمعون صوت الماء؟ أتسمعون صوت قرقعة الماء في حلق عساف؟" يتساءل الأستاذ منير وقد مثل ما قام به عساف حركة وصوتاً لقرقعة الماء. يرتوي عساف بما شرب ويضع الإبريق جانباً.. "الحمد لله... خي... يسلمو إيديك يا أم عدنان" يقول عساف.
شرب عساف الماء الزلال بعد جهد بذله خلال يومه. تمتع عساف بشرب الماء وشكر الله على نعمة ما شرب وشكر أم عدنان على ما قدمت. يستلقي عساف قليلاً إلى جانب برطاش العتبة ليستريح قليلاً قبل أن يبدأ تناول وجبة العشاء، صحن حمص بالزيت من عند الحاج ياسين وقرص بندورة وقرن فليفلة مع رغيفين مرقوقين من الفرن وبصلة صغيرة وخيارة مخلل.
الفصل الثاني:
يسكن وجيه قصراً من ثلاثة طوابق وحيداً مع زوجته أم سامر. لقد تزوج ولداه وسافرا طلباً للرزق في بلاد الغربة. ينهض وجيه من فراشه وقد قاربت الشمس موقع كبد السماء. يلبس روبه الحريري المقصب فوق صايته الشامية الحريرية المقلمة قشطه بعسل وينزل من الطابق الثالث إلى الطابق الثاني حيث صالونات الاستقبال وإلى الطابق الأول الذي يطل على حديقة غناء زرعت بأنواع الأشجار المثمرة تحيط بها شجيرات الياسمين وتتوسط الحديقة بركة ماء تزينها أحواض الزنبق الطرابلسي والورود العطرة. الجو عبق بعطور الأزهار والزنبق وروائحها الزكية.
يخرج وجيه إلى الحديقة ويلقي بنفسه على الأرجوحة التي تهتز به بطيئة، كيف لا ووزن وجيه قد تجاوز المئة كيلو ينادي وجيه: "حسنية... حسنية... ناوليني شوية مي" "تحضر حسنية على عجل تحمل صينية حلبية من الفضة المنقوشة بخيوط الذهب وفي وسطها كأس من الكريستال الفرنسي فوق صحن عجمي من الفضة وقد ملأته بالماء النقي مضيفة نقطتين من اء الزهر الطرابلسي لتجعله أكثر قبولاً. "تفضل معلمي"... يتناول وجيه كأس الماء ويقربه من أنفه.. رائحة الماء غريبة يا حسنية... يقرب الماء من فمه ويتناول بلعة ماء... طعم الماء غريب... من أية قنينة عبأت الماء يا حسنية؟ من القنينة الفرنسية المخصصة لك... يا معلمي... غريب طعم الماء...
غريب يا حسنية يضع الكأس جانباً ويعود إلى تحريك الأرجوحة مع تنهد وتأفف واضحين.
وجيه لم يستحسن طعم الماء الفرنسي وقد أضيفت إليه نقطتان من ماء الزهر الطرابلسي. وجيه نام متأخراً بعد عشاء فاخر واستيقظ متأخراً متثاقلاً وهو لم يبذل أي جهد... طعم الماء غير مستساغ. ليس الماء الذي أحضرته سكينة بالتخصيص، بل كل أنواع الماء ومهما كان مصدرها، إذ ليس للأمر علاقة بنوع الماء وطبيعته ومصدره وتركيبه الكيميائي بل يرتبط الأمر بتناول الماء دون سابق جهد ولا متعة إلا إذا سبقها جهد.
قارنوا بين الحالين: عساف يشرب ماءً يفرح به قلبه وأنفه ولسانه فهو بعد يوم جهد يتمتع بما يشرب ويشكر ربه وزوجه أما وجيه فهو لا يستسيغ الماء الممزوج بماء الزهر والمحمول إليه في أس من الكريستال على صحن من الفضة لأنه لم يتمتع بجهد بذله وصولاً إلى المكافأة.
ماء إبريق الفخار أطيب وأكثر إمتاعاً من ماء كأس الكريستال أليس كذلك؟ بل الحقيقة هي أن الجهد الذي بذله عساف هو الذي كلل شرب الماء بالمتعة.
لم يتعب عساف في عمله.. لقد بذل جهداً فتمتع ولم يجهد وجيه في نومه بل تعب من نوم أعقب عشاءً دسماً. الجهد يتوج بالمتعة والكسل يتوج بالتعب والقرف. ألا تعتقدون معي بصحة ذلك يا أبنائي؟
ختم الأستاذ منير حديثه بهذا التساؤل الهادف.
لن ننسى دروسك أيها المعلم القائد وسوف نتابع بذل الجهد لنبلغ المتعة الحقيقية التي حدثتنا عنها.
لن ننساك أطال الله بعمرك
 
واحد من تلاميذك الكثر الذين يلهجون بفضلك وفضل أساتذتهم الكرام أمثالك
 
 
 
WEBMASTER : AA-ALSAAD
This Web Site Programmed and Written By ABD ALMASSIH JAMIL ALSAAD ..... Copyright 2003 (C) SCOPNET  All Rights Reserved 

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق