مجلة السنونو (
العدد الحادي عشر ) -
قراءة في كتاب
|
|
البلاغة
من الابتهال إلى العولمة ( الكاتب : حنا
عبود - عرض وتعليق : محمد نجاتي طيارة
)
|
|
البلاغة من الابتهال إلى
العولمة ،
الكاتب : حنا عبود
عرض
وتعليق: محمد نجاتي طيارة
الناشر: اتحاد الكتاب
العرب، دمشق 2007
عدد الصفحات 262 ص من
القطع الكبير
جاء في
لسان العرب أن البلاغة هي الفصاحة، وبلغ الشيء أي وصل وانتهى، ومستقر بيننا معنى
القول الكريم: هذا بلاغ للناس. أما أستاذنا حنا عبود، فقد جعل كتابه الأخير، أو
على الأصح كتابه ماقبل الأخير( الذي هو لاشك في طريقه إلى النشر وفق ما عودنا عليه
من دأب وغزارة إنتاج) جعله في البلاغة التي درسها (من الابتهال إلى العولمة)
وافتتح تقديمه لها بترويسة تعلن تحيزها مباشرة فتقول : نتخاصم مع الآخرين
بالبلاغة ونتخاصم مع أنفسنا بالشعر.
هكذا
إذن البلاغة لديه خاصة إنسانية ننفرد بها، أعلنها البلاغيون علما، كان طليعة
العلوم، بل العلم الأول والوحيد. ثم صار كأي أداة سلاحا ذو حدين، ولذلك طلبها
المعلمون اليونان والرومان كأداة سمو ويحذر المختصون اليوم من استخدامها كأداة
تضليل، أو كمصنع للأكاذيب ، التي قد لايحتاج إطلاق شائعتها إلا إلى كلمة واحدة ،
بينما قد يحتاج تكذيبها إلى عمر وجهود طائلة.. كما في شائعة "خطبة طارق بن زياد "
التي لو حذفنا البلاغة منها لما استمرت يوما واحدا على حد قوله.
تلك هي
البلاغة ، مصنع أو نول لا يكف مكوكه عن النسج والدوران ورصف الألوان التي تخلب
الألباب، ونظرا لخطورة هذا المصنع واستخداماته بيد الإنسان المسؤول عن الكذب
والخداع والحيلة، ذهب الكتاب لدراسة ما ورائه، وأوغل عميقا مع الدراسات
الانتربولوجية في محاولة كشف أسباب التقديس الملحوظ للبلاغة والبلاغيين.
فدرس أولا الخلفية
الحيوانية في تعلم دروس البلاغة الأولى من الحيوان عندما قلده الإنسان في اللحى
والشوارب وفي هيئة شعر الأسد أو تسريحة شعر المرأة. وكما في صنع الملابس من الريش
أو ترميز الحيوان الطوطم، أوفي صباغة الوجه، وصولا إلى تقليد الحركة والشكل والصوت.
والأخير تابع تطوره من المستوى المادي الإشاري إلى المستوى التجريدي الرمزي مولدا
للغة التي صارت تراثا قائما بذاته ، وفرنا ينضج فيه خبز البلاغة.
لينتقل إلى دراسة
أدوار خلفيات أخرى كالطبيعة التي كان تقديسها شائعا، وما زالت بقية مظاهرها لاتحصى
في البلاغة ، والخلفية الإنسانية التي بدأت عندما اشتغل الإنسان في اللغة بعد
تشكلها ، مرتفعا بها عن مقابلة الطبيعة، ففقدت اللغة بذلك حياديتها، وصارت بالتالي
غرضية . وهنا تحديدا، حسب الكتاب (ص 13)،بدأت مشكلة البلاغة التي هي في كونها أداة
وليس في تطورها كعلم.
وعند دراسة الخلفية
العقلية لاحظ أن ظهور اللغة سرّع من تطور العقل بصورة عاصفة، مما أدى إلى فجوة
بينهما وإلى المزيد من التشويش الاجتماعي. فبعد أن كانت اللغة مساوية للعقل تخلفت
ثم أجبرت على الغوص في مهام ليست من مهامها ولا في مقدرتها، كمعرفة المجهول
والغائب. والمفاجئ هنا قوله أن مثل هذه المهام ليست من وظيفة العقل، فهي تكليف
إضافي خلقه لنفسه (ص14) ! وذلك في ظني استطراد خرج عن سياق الفكرة، فمهمة من إذن
تكون تلك المعرفة، وكأني بها ها دعوة للعقل إلى الاستقالة من هذا المجال كي يعود
عقلا (طبيعيا) مساويا للغة الطبيعية، فتنتهي بذلك مشكلة البلاغة فتريح وتستريح؟!
لكن
سياق النص، يعود فيصرح أن العقل تنكب هذه الوظيفة بقسره اللغة على الخوض في غمار
المواضيع الإشكالية المذكورة ، والتي ارتبطت بها دوما النزعة الإيمانية، فأسهم في
ظهور البلاغة المقدسة، وعلى نولها نسجت الكلمة المقدسة، والغائب المقدس. وعبر
التاريخ نشأ فكر لخدمة الإنسان وفكر آخر لخدمة الغائب، كما نشأ فكر ثالث لا هم له
سوى خدمة الربح.
وحين
يقرر الكتاب إن العقل الإنساني مسؤول عن كل الاضطراب الذي يجتاح حياتنا الاجتماعية
ونظمنا، في بحثه الذي "يكاد يناقض نفسه، على العكس من عقل الحيوان المستقر على نظام
يضمن للغرائز حقها، وللطبيعة توازنها" (ص15 ) فإنه يتساءل إلى أين يريد هذا العقل
أن يرتقي؟ إلى نظافة البيئة الاجتماعية والطبيعية أم إلى تلويثهما، إلى أخلاق (
الحمار) أم إلى أخلاق ( الحصان) وهما موضوعان كبيران يستحقان كثيرا من التفصيل الذي
يخرج عن نطاق هذا العرض؟ . هنا نفاجأ ثانية باقتراح إجرائي " هذا العقل الإنساني
الجبار، احجب عنه البلاغة النطقية تجده يتخذ منحى آخر) ..يتبعه استنتاج فوري يتجاوز
مشاق التجربة المقترحة وعناء تفحص اختباراتها ليعمم وببلاغة مجددة : فـ ( يكاد
المتأمل في تاريخ البشرية يؤكد أن المسؤول عن كل ذلك الصراع الاجتماعي هو البلاغة
عندما انتقلت من أداة فن وتجميل للحياة إلى أداة يستغلها الفكر من أجل الوصول إلى
مآرب شتى.. )
وحين
يتساءل عن إمكانية توجيه العقل البلاغة إلى السمو؟ يجيب أن ذلك ممكن، لكن ببذل
الكثير من الجهود. وذلك بدلا من الحل الأسهل اليائس والمتمثل بمكافحة البلاغة
ودفنها، والعائد بذلك إلى عقل مقارب للعقل الغريزي المتصالح مع الواقع والطبيعة !.
محاولة
هذا الجهد الممكن والمطلوب تدفع إلى ملاحظة حدود البلاغة الإنسانية، ووقوفها عند حد
النطق والكلام؟ وحين يسجل اهتمام الانتربولوجيا الثقافية بالبلاغة الجسدية كسلوك
"طيور الحب" وغمزة العين والابتسامة وتلويحة اليد، والأزياء، وطرائق المشي والرقص،
فإنه يكشف وقوف علم البلاغة عند حدود الكلام ، وعمله تاريخيا على الفصاحة والخطابة،
ومن هنا يحدد مجال دراسته في البلاغة الكلامية :
فيبدأ
تحليل العلاقة بين اللغة والفكر بدراسة اللغة التجريبية ويضرب أمثلة من لغتنا
العربية ( حتى نبقى في الأجواء الشرقية) على رأي جون لوك في انطلاق اللغة من
المحسوس إلى المعنوي أو من التجريب إلى المجرد) وفكرة الصفحة البيضاء، ومنتقلا إلى
معارضتها باللغة المجازية التي تصوغ النفس مفاهيمها مسبقا كالمكان والزمان والنار
إلخ حسب رأي باشلار، ليصل إلى واقعية وتاريخية تركيبها في مجمع التجارب النفسي
الموحد، المكون من تفاعل وجداني كلي للنفس الانسانية، سبق فيه الموقف الشعري الموقف
النثري، كما سبقت فيه الأسطرة غيرها من مراحل الفكر البشري. وتطورت عبره البلاغة
لتصير سلاحا ذا حدين، سمح بتشكيل عالم زائف ( أيديولوجيا ) وأسهم في صناعة كاريزما
مشهودة ومعاصرة ، كما في مثال الرئيس التركماني ( نيازوف ). لدرجة أن التاريخ
المدون بأكمله يغدو باختصار تاريخ بلاغة، يخصص الكتاب القسم الأكبر والتالي من
صفحاته الموزعة على ثمانية فصول في دراسة أبرز تضاريسها : من الطوطمية إلى ربات
الفنون، إلى المفردات اليومية، ومن الابتهال إلى الكتابة، وعبرالتشكيلات الزائفة،
وفي سنوات الثورة الفرنسية العشر، والأيام العشرة للثورة الروسية، منتهيا بصورتها
الراهنة في بلاغة العولمة، ومضيفا أربعة فصول ملحقة عنها: 1ـ في البيادر الخلفية
للظاهرات الفلكلورية الأسطورية ( الأسرار الإيليوسية، والديونيسيا، واللوبيركاليا،
والترميناليا، والساتورناليا ، وعيد الحمقى )، 2 ـ الحصان في بلاغة اليونان، 3 ـ
الخيل والخيال والمخيال عند العرب، 4 ـ خاتمتها عن تحطيم البلاغة في مثال أو ظاهرة
شديدة الطرافة أو المغايرة من تراثنا متمثلة في شخصية ( أبوالعبر) من العصر
العباسي!.
وقبل
ذلك، كان لابد له من تخصيص فصل بدأ فيه بدراسة فلسفة البلاغة ووظائفها، عبر ملاحظة
ظاهرة الخطابة وتناقض موقفين منها، الأول يفرض اختصارها بكلمتين ربما عند بعض قبائل
أفريقيا، مما ينسجم مع القول العربي: البلاغة في الإيجاز، والثاني يطيلها لساعات
كما في الإنصات لمرشد الثورة. وإذ يتساءل عن تفسيرها بثنائية الطبيعة البشرية أم
بثلاثية هيغل ؟ فإنه يرى في تناقص أنصار الخطابة علامة على عزوف الأجيال الجديدة عن
الكلام الخطابي مقابل انتشار وسائل الاتصال الحديثة ( ص 31).
في كل
ذلك، يقدم لنا الكتاب فرضية كبيرة أخرى جديدة من فرضيات الأستاذ حنا عبود المبتكرة
دوما ، وفي دراسة شيقة تتحاشى شواهد البحث وتوثيقاته الجافة، إلا فيما ندر وبصورة
إشارية، وتمضي بأسلوب حكائي، وكأن الكاتب يخاطبنا وجها لوجه ، وببلاغة أيضا على
الرغم من وقوفه طوال الكتاب ضدها ، مؤكدا: إن في البلاغة لسحراً!
|
|
WEBMASTER : AA-ALSAAD
|
This Web Site Programmed and
Written By ABD ALMASSIH JAMIL ALSAAD
..... Copyright 2003 (C) SCOPNET All
Rights Reserved
|
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق