مجلة السنونو (
العدد الحادي عشر ) -
دراسات
|
|
مراد
السباعي وتجربة الإبداع ( بقلم : محمد بري
العواني
)
|
|
مراد السباعي وتجربة
الإبداع
بقلم:
محمد بري العواني
حين
يدور الحديث عن مبدع متعدد الإبداع، متنوع الأفكار، فإن إبداعه يتوغّل في تاريخه،
وتاريخَه يتوحّد في إبداعه، فإذا الرجل كتلة حية متماسكة لا يمكن تجزيئها، أو فصلُ
بعضها عن بعض.
ومراد السباعي- 1914/ 2001م القاص ورجل المسرح منذ أوائل ثلاثينيات القرن العشرين-
هو أحد أهمّ مبدعي القصة الواقعية القصيرة، وأحد أهم وأخطر مبدعي الحركة المسرحية
السورية تمثيلاً وتأليفاً وإخراجاً. لكنه أقلهم تنظيراً، بحيث لا نعثر له على أحكام
أو آراء نقدية مستقلة إلا ما ندر، وإلا في سياق مقدماته لقصصه، أو في سياق لقاءات
صحفية هي في الأعم الأغلب وجهة نظر، أو في ثنايا سيرته الذاتية.
وإذا
كان مراد السباعي قد انشغل كثيراً بإبداع قصص تنتمي إلى الواقعية بأسباب متينة فهو
كذلك في مسرحه. إذ نراه في قلب المجتمع راصداً، ملاحظاً، معلّقاً ومعلّلاً. يصنع
حكاياته بيسر وبساطة، فإذا هي تجعل من هذا الواقع مرجعاً ذا مصداقية لا يُعوِزها
الدليل التاريخي.
إن مراد
السباعي القاصَ ورجلَ المسرح استثناءٌ متميز بالنسبة لأقرانه السوريين. واستثنائيته
تنبع من كونه قد طرق مشكلاتِ البيئة الاجتماعية السورية المدينية من دون خوف أو
تردد، ناقداً قيمَها وأخلاقها وعاداتِها وتقاليدَها، وداعياً في الوقت نفسه إلى قيم
أخرى جديدة، نابعةٍ من طبيعة الحياة وتطورها محلّياً وعربياً وعالمياً في زمن كان
كل شيء فيه يُقيَّم استناداً إلى معايير دينية صارمة، هي معايير الحلال والحرام، أو
هي معايير العيب الاجتماعي.
ومن
المؤكد أن موقف مراد السباعي ذاك يكشف عن جوهر أفكاره، وعن أهدافه وغاياته من الأدب
القصصي والمسرح بكل مكوناته. وهي أهداف أخلاقية اجتماعية في محاولة منه للتغيير.
لهذا يمكن النظر إلى إبداع السباعي على أنه رسالة تربوية تعليمية، ما يوفّر للدارس
فرصةَ التأكُّد من أنه أحد أهمّ المنوّرين في تلك المرحلة، وبدءاً من ثلاثينيات
القرن العشرين. لأنه لم يكن يرى قيمة لعمله بعيداً عن الناس في حركتهم اليومية بما
هي وجود وكينونة.
انشغل مراد السباعي على مدى تجربته الإبداعية بالفنون الأدبية التالية: (القصة
القصيرة- المسرحية والعرض المسرحي- السيرة الذاتية- أدب الرحلات). وهو كأبناء جيله
كان حريصاً على أن يمتلك أسلوبه الخاصَ في الإبداع. أما الأسلوب لديه فلا يعني
(الجمل الإنشائية التي نستعملها في الكتابة، ولا الخامةَ التي تُرْسَم عليها
اللوحةُ أو الإطار المحيط، وإنما هو اللوحة ذاتها في
ألوانها المتناسقة المتجانسة وفي أبعادها
وظلالها وكلِّ ما فيها).[1]
وهذا يعني أن السباعي لا يرى العمل الإبداعي، ولا يتذوّقه، إلا في كلّيته.
وفق تلك الرؤية يكون
الأسلوب لدى السباعي هو الكيفيةَ الخاصة التي يبدع فيها المؤلف أفكاره وحوادثه
وشخصياته وكلَّ مكونات العمل الإبداعي التي كانت أجزاء متنافرة في كلٍّ واحد يقوم
على شرطين رئيسين هما (الممكن والجمال). وعلى هذا فإن الأسلوب (ينبع من شخصية
المؤلف) المكوّنة من عوامل شتى صنعتها البيئة والثقافة والتجربة والأخلاق.[2]
ولعل خير ما يختم به
السباعي آراءه ووعيه النظري هو أن الأسلوب ترتيب مخصوص للأجزاء (الصغيرة المتناثرة
من الأفكار والحوادث والصور والشخصيات وتنسيقها وترتيبها بشكل منطقي).[3]
حتى لكأنه يُشعرنا بأن السرد هو كذلك حقاً، أي تنسيقاً وترتيباً لأحداث في أوضاع
مخصوصة. وهذا رأي ينسجم مع الاتجاهات النقدية السردية الحديثة.
في مقدمة مجموعته
القصصية (تحت النافذة) يكتب مراد السباعي ما يراه أساساً في فنّ القصة. وهو يجاهد
للتأكيد على اقتران ممارسة الكتابة بالتجربة الذاتية، لأن (الذي لم يشترك في الحرب
ولم يحضر غمار معاركها الرهيبة هو أعجز من أن يتحدّث عن الحرب لأنه يجهلها [...]
وأنا لا أصدّق إطلاقاً أن رائعة همنغواي "الشيخ والبحر" قد صدرت عن غير تجربة).[4]
أما فنّ القصة فهو (خلقٌ
جديد وصياغةٌ مبتكرة. وهي أبعد ما تكون عن الصناعة الخاضعة لعملية القوالب).[5]
وبذلك يكون الفنّ انتقاءً واختياراً.[6]
لأن لكل شخصية سلوكَها الخاص بها ولغتَها وأحاسيسها. وأما التسرّع في تثبيت الحادثة
دونما اختمار فيؤدي إلى السوء والفشل.
غير
أن أهم آرائه مثاراً للنقاش يتجلى في قضيتين. أما الأولى فتتعلق بالزمن القصصي.
فـ(الحاضر لا يصلُح للقصةِ لأنه يفتقر إلى التخمّر. والزمنُ البعيد هو الذي يصهر
الحوادثَ ويغيّر من طبيعتها ويحوّلها إلى معدِن قابل للصياغة. والمعالجةُ الفنية
تكون أقوى ما يمكن أن تكون حين تُصاغ القصة على شكل ذكريات لأن الزمن كفيل بأن
يمحوَ التفاهات جميعَها [...] أي إنَّ الزمن في الذكريات هو الذي يقوم بعملية
الانتقاء والاختيار والتصفية).[7]
وأما القضية الثانية
فتتعلق بالموضوع، حيث يرى السباعي أن (القصة التي لا تتضمن موضوعاً [هي] بلا شك
أكثر فنية لأنها تستطيع التجرد من ضغط أي مادة دخيلة).[8]
وعلى هذا يفضِّل مراد
السباعي القصةَ من دون موضوع. أو لنقلْ: إنه يفضِّل القصةَ التي تدور في فراغ. وهذا
يعني أن القصة والموضوعَ لديه أمران مستقلان. لأن القصة (فنٌّ خالص)، و (الموضوعَ–
أو الفكرةَ- مادةٌ دخيلة تريد الوصول إلى ذهن القارئ على حساب فنية القصة).[9]
ولكنْ هل كتب مراد
السباعي قصةً ما امتثالاً لآرائه السابقة؟. لنقرأ النص التالي من اعترافه التنظيري:
(الأحسن فنياً فيما أرى أن تتفجَّر الفكرة من الحادثة دونما تهيئة وإعداد. [...]
وأنا شخصياً أختار أفكاراً معيّنة لقصصي، بل أترك للحادثة أن تختار الموضوع الملائم
لها فأتبنَّاه وأسيرُ في اتجاهه).[10]
واضح أن
مراد السباعي يخلط أفكاراً كثيرة مع بعضها بعضاً بعيداً عن طبيعة قصصه وموضوعاتها
ومضامينها. لكنّ المدهش في الأمر تصريحُه بأن المؤلف لا علاقة له في اختيار وانتقاء
موضوعاته. بل إن الحادثة بما هي زمنٌ متقادمٌ هي التي تقوم بدور الفاعل في فرز
الفكرة وتقرير صلاحيتها من غيرها ليقوم عليها عمل إبداعي ما. وهذا يقودنا إلى أن
قصص مراد السباعي قد صدرت عن تجربة ذاتية، وأن أبطالها هم مراد نفسه. ما يعني أن
هذه القصص ذات سمات وثائقية في أعمها الأغلب، وأن الحوادث هي التي تقود قصصه وليس
الشخصيات.
يشكل
إبداع مراد السباعي السرديُّ والدرامي المسرحي موقفاً تنويرياً ثورياً رائداً
بالقياس إلى مجايليه من القاصين والمسرحيين السوريين. ويمكن عدُّ تنويريته (مواجهة
نقدية للواقع المتردّي بسائر تياراته وتجلياته)[11]
الاجتماعية والاقتصادية والأخلاقية. لأن مجمل موضوعاتِ ومضامينِ قصصه تتوجه إلى
الواقع، بعد أن عاشته واستوحته، أو استلهمته، باعتباره وضعيةً اجتماعية مأساوية
ظالمة متحجرة وظلامية تقف ضدّ كل نزوع إنساني نحو التحرر والاستقلال عن النمط
السائد، الأمر الذي يعوّق كل ثقافة جديدة بما هي ثقافة الفرد الحر، النافر من
الثقافة المتسلطة، والمتمرد. ولهذا كان لا بدّ لشخصياته كلها من أن تنتهي إلى
الدمار الكليِّ موتاً، أو انسحاباً ونكوصاً من الحياة. وهما حلاّن ينهيان علاقةَ
الشخصية بواقعها الاجتماعي الموصوف.
غير أنه
إذا كان هناك استثناء من الوضعين السالفين؛ الموتِ والنكوصِ؛ فهو التمرد على
الواقع، ما يشكل طفرة ثورية تُحْمَد للسباعي آنذاك لإنتاج سرد قصصي واقعي نقدي
معادٍ للسائد، ويطرح بدائل ثقافية. وفي كل الأحوال فإن إنجاز مراد السباعي القصصي،
ومثله المسرحي، لا يُخفي نزوعَه السافرَ إلى نقد الواقع المتردّي.
ولما
كان ذاك الموقف نقداً للواقع فإنه يشكل تنويراً فذاً بحيث يغدو تحريضاً بهدف تجاوز
الوضعية الموصوفة بجرأة، خاصة وأن تلك الوضعية تُعامَل دائماً باعتبارها مقدساً.
وهذا يعني أن السباعي يدفعنا إلى تجاوز تلك الوضعية بنقد مقدًَّسِها. والنقد هو أول
خطوة نحو ممارسة فعل التمرد والتحرر. وهذا يسمح لنا بتكوين وجهة نظر فكرية، فنية،
حول سرد السباعي القصصي.
على أن
الحديث عن ذلك يوقع في ورطة التعميم المطلق لكون السباعي أحدَ أفراد الرعيل الأول
في سورية. ما يعني أنه لا بدَّ وأن يكون في سرده تقليدياً من حيث البناءُ الفني
وتناولُ الموضوعات. ولذلك فإن تعميم الأحكام على إبداعه القصصي يبدو صحيحاً
بالاستناد إلى الشكل التقليدي للقصة فقط. وهذا الأمر صحيح في انطباقه على كل معاصري
السباعي من دون استثناء. لكنَّ هذا لا يمنع من أن يكون لكل مجموعة قصصية خصائصُ
تمايِزها من غيرها.
تلحُّ مجموعة (هذا ما كان) على تكرار ثلاث بنيات رئيسة هي (الحب- الحرية- التمرد).
وتعاني أغلب الشخصيات أوضاعاً مأساوية تؤدي إلى الانتحار، أو الموت الطبيعي، أو
التلاشي والغياب عن مسرح الحياة. ولكن الحب يظهر كموضوع أثير لديه من دون الموضوعين
الآخرين.
أما
مجموعة (الشرارة الأولى) فتلح على تكرار تقنية المشهد الحواري القصير والطويل,
وتجتهد لإخفاء تَمَظهِر المكان مستقلاً عن حركة الإنسان فيه لتؤكد أن المكان يبرز
حين يتمّ إسقاط الحالات النفسية الخاصة بالشخصيات عليه. وبذلك يمكن الحكم فيما إذا
كان المكان مغلقاً أو مفتوحاً. عاماً أو خاصاً. إجبارياً أو اختيارياً. أو فيما إذا
كان مكاناً جغرافياً أو فضاءً اجتماعياً، أو نفسياً مفتوحاً على مرجعية خيالية، أو
فكرية ذهنية وليس على مرجعية واقعية.
غير
أننا في مجموعة (الحكاية ذاتها) نرى اختفاءَ المشهد المسرحي اختفاء شبه كلي ليحل
محلَّه في الأعم الأغلب تقنيةُ الاستذكار والاسترجاع والرسائل. وسيظهر أسلوبٌ يشبه
الاعترافاتِ فيقترب من البوح عن طريق السرد الممزوج بالوصف. ولعل هذا المنحى الفني
يكشف- بقدر ما- تلبّس مراد السباعي حالةً من التأمل الوجداني الذاتي للأوضاع
الإنسانية الاجتماعية الراهنة آنذاك. ولهذا سوف نرى في هذه المجموعة اختفاء صوت
الآخر ليسود صوت واحد، وليسيطر السرد والوصف والتحليل، وقدْر لا بأس به من التداعي.
وكأننا بذلك نرى أن تأكيد مجموعة (هذا ما كان) على الحب والتمرد والتحرر عبر تعددية
الأصوات إنما كان بدافع الحاجة البشرية والتحوّل والتقدم الاجتماعيين؛ العالمي
والعربي. ولما كانت هذه المطالب مستحيلة في الأربعينيات كان لا بد للشخصيات من
الموت، أو الانتحار، أو النكوص والغياب من خلال إخفاء الصوت الآخر، الأمر الذي يكشف
عن قاص رومانسي كثير التأمل الذاتي.
في إطار
طبيعةِ وشكل السرد يوافي السباعي أسلوباً نمطياً من حيث تطور الحكاية والسردِ
القائميْن على زمن خطّيٍّ تعاقبي أفقي، يُظهِر الآنات الثلاث؛ الماضي والحاضر
والمستقبل؛ وفق التسلسل التقليدي. ولهذا يصر السباعي عبر منطق التتابع وبساطة اللغة
الواعية على معالجة حكاياتِ قصصه وفق رؤية تبريرية تترتب بموجبها النتائج على
المقدمات، وترتبط النهايات فيما بينها بمنطقية الأسباب، ما يوحي للقارئ بالثقة،
ويوهمه في آن واحد بالحقيقة.
من جانب
آخر يبدي سردُ السباعي نزوعاً طيباً نحو المشهدية المبنية على حوار مسرحي يدور بين
شخصين غالباً، الأمر الذي يبطئ من سرعة السرد، ومن تدفقه لينتقل إلى الحركة
المسرحية، مفسحاً للعقل مكاناً رحباً، ومن ثم لظهور العواطف والانفعالات الوجدانية
المباشرة الخاصة بالشخصيات، والنابعة من صراع ما. وأمر كهذا يجعل الشخصيات تفصح عن
نفسها من دون وسيط، أو راوٍ، أو ساردٍ, أو وصف، ما يجعل القرّاء وجهاً لوجه مع
الشخصيات وهي تفعل وتتحرك وتتصارع. ولعل هذا النزوعَ العارمَ نحو المشهدية المسرحية
يكشف حقاً عن أصالة حب الحوار مع الآخر، والإيمان بالديمقراطية وحرية التعبير لدى
السباعي.
وحين
لا يصوغ السباعي مشهداً مسرحياً فإنه يلجأ إلى تقنية السؤال والجواب في ثنايا السرد
والوصف مستخدماً فعلي "قال" و"قلت"، أو ما شابههما مثل (همس/همستُ)- (أجاب/ أجبت)-
(ردّ/ رددتُ)..إلخ. ويمكن القول: إن هذه التقنية الموحية بالحوار تتصدر في العموم
بدايات القصص، وكذلك بدايات الفقرات، وتقوم بدور الرابط الحيوي بين مجمل فقرات
القصة الواحدة في سياق تتابع الحبكة.
وما
دام السباعي كاتباً واقعياً فإن لغته المشهدية هي لغة أشبه باللغة اليومية، وتحاول
أن تحاكيَ الواقع من دون ان تطابقه. وهذا يجعل من تلك اللغة أدعى ميلاً إلى تحليل
دواخل الشخصيات، أو التعليق على الأحداث، ووصف الأشياء، وإبداء وجهات النظر
المحدَّدة أياً كان مستوى الشخصية الاجتماعيُّ والثقافيُّ، وهي كلها شخصيات شعبية،
لإيمان السباعي بأن لغة الفن والأدب لغةٌ خاصة جداً حتى وإن اشتبهت أو التبست بلغة
الواقع اليومي. وهذا ينسجم حقيقة مع رؤية السباعي الفنية والفكرية التي ضمّنها
بيانيه في مجموعتيه القصصيتين (الشرارة الأولى) و (تحت النافذة).
وفي
الحقيقة إن مراد السباعي يتخلص في فقرات المشهد المسرحي من إحالات الضمائر إلى
استخدام الراوي (متكلماً أو غائباً أو مخاطباً)، وبكل حالاته في (الإفراد والتثنية
والجمع)، وبتعدديته وتنوعه. وهو يريد بذلك إقناعنا بحياديته تجاه شخصياته القصصية
من جهة، وإراحة الراوي من تحميله تبعات مصائر الشخصيات من جهة أخرى. غير أن السباعي
يوقف بذاك الفعلِ الزمنَ السردي، وهو الماضي عموماً، عند الحاضر، أي حاضرِ وزمنِ
المشهد المسرحي. وهذا يوفِّر قدرة كبيرة وفاعلية نشطة وتمكيناً باهراً للإيهام
الدرامي، لكون تلك المشهديةَ المسرحيةَ قائمةٌ على المحاكاة.
لكنّ ما
تجب ملاحظته هو أن مشاهد الحوار المسرحي تُمدنا- نحن القراء- وتُمد القصة بزمن يكاد
أن يكون حقيقياً للتأمل الواعي بعلاقة الشخصيات المباشرة بنا في لحظة تحاورها مع
بعضها بعضاً، أو في لحظة صراعها من دون وسيط يوضح لنا الأحداث والأفكار، وما نجهله،
خاصة وأن سرد السباعي يتناوب في الأعم الأغلب بين السارد بضمير الغائب العالم بكل
شيء والمسيطر على الأحداث، واللاعب بالأزمنة والأمكنة على هواه وحسب ما يتطلبه
السرد، والراوي بضمير المتكلم المندمج في الأحداث مباشرة، حيث يكون هذا الراوي أقل
معرفة بالشخصيات والأحداث وبما سوف يجري في المستقبل. وبذلك تكون المشهدية المسرحية
فرصة لاختبار أحاسيسنا وأفكارنا ووجهات نظرنا بعيداً عن إرشادات السارد، أو الراوي،
وتدخلاته.
ولغرام السباعي بتقنية الحوار المسرحي فإنه كثيراً ما يجنح إلى مزج السرد بالحوار
وبأسلوبٍ متناوب، ما يضفي على القصة تنوعاً فنياً، وحركة حيوية جميلة، وليونة
وتناوباً في الأزمنة، خاصة حين يتوافر للسرد وللحوار إيقاع سريع نابض وفعال ومعبّر
من خلال ذاك التناوب.
يفصح
إبداع مراد السباعي على الدوام عن مرجعيات واقعية عاشها بنفسه منذ طفولته وحتى
كهولته. لقد كان شغوفاً بالحياة الاجتماعية. ولهذا نراه في سيرته الذاتية الجميلة
(شيء من حياتي) حريصاً على تأكيد أهمية التجربة الحية المباشرة للمبدع، لأنها زاده
الفني والفكري. ومن يتأمل في تلك السيرة سوف يدهشه الاختيار الدقيق للَّحظات
التاريخية التي يتم توثيقها في الذاكرة الجمعية. وأمر كهذا ينطبق بدقة على موقف
السباعي ووجهة نظره في علاقة الكاتب المبدع بمادته التي يجب أنْ يُخضعَها للاختيار
والانتقاء والترتيب انطلاقاً مما نظّر له أرسطو حول طول الحكاية في المسرحية، أو
الملحمة، وما يجب أن يتوافر في المسرحية من بداية وعقدة ونهاية.
وعلى
هذا فإن مراد السباعي لا يتوانى عن ربط الإبداع بالتجربة. وإذا كانت أسرة السباعي
الموسرة مادياً في عشرينيات القرن العشرين، خاصة ما بين الحربين العالميتين، فلم
يشعر بالجوع أو الفاقة كما ذكر في سيرته، فإن التجربة الوجدانية هي التي يجب أن
يتمّ التأكيد عليها بجدية. وأمر كهذا يجعلنا نصنف السباعي في جملة المبدعين
الملتزمين بقضايا مجتمعهم المختلفة، خاصة ما يتعلق بالقضايا التحررية على كافة
المستويات. بل وهذا ما جعله متمرداً على المواضعات الاجتماعية المقدسة.
لذلك
كله كان لا بد للسباعي من أن يتخير لإبداعه لغة فصيحة سهلة معبرة ودالة، فكان أن
نجح في اختراع لغة أدبية لا هي بالفصحى، ولا هي بالعامية. بل إنها مزيج فريد من
اللغتين سبق بها توفيق الحكيم.
ولما
كان الإبداع موجهاً إلى الآخر فقد حرص السباعي على أن يكون بعيداً عن الهذر
والاستفاضة والثرثرة، سواء في قصصه ومسرحياته، أم في سيرته. لكنه مع كل التزامه
بقضايا المجتمع فإن ما كان يحكم كتابته المختلفة نابع من قلق وجودي طوّره لصالح
الإنسان الضعيف. وقد كان يعرف ذلك ويعيه باقتدار حيث يقول: (وعلى الرغم من اعتقادي
بعبثية الوجود أجد أنّ الحياة يمكن أن تعاش في أقسى الظروف).[12]
بل
إن مراداً لا يتوانى عن نقد الذات لعرض ما هو مشتَرَك يفيد الناس فكان صريحاً في
نقد المجتمع، جريئاً في تشخيص العيوب. ولعل هذه الصراحة قد أتته من أثر الواقع
الاجتماعي والاقتصادي الشنيع في الحياة الاجتماعية، ومن بيتِ العائلة المسيَّس، ما
أكسبه وعياً باهراً بما يجب أن يفعله كمثقف ومنوّر وطني من خلال الأدب القصصي
والمسرح.
وإذا
كان السباعي وفياً مخلصاً لأفكاره النظرية في فنّي القصة والمسرحية من حيث الاختيار
والانتقاء والبساطة فإنه في سيرته الذاتية "شيء من حياتي" يطبق ذلك بصرامة ودقة. بل
إن العنوان يشير إلى ذلك بصراحة مطلقة، لأن حياته مليئة بالأحداث سواء أكانت
موضوعية أم ذاتية، معقولة أم غير معقولة. وأمر كهذا يخلق فجوات كبيرةً وكثيرةً في
التاريخ العام والشخصي. كما يخلق لدى القارئ إرباكاً في متابعة السرد نفسه.
ولِتجنُّبِ مثل هذه الفجوات التي تضر بالسرد فإن مراد السباعي يلجأ إلى تقنيات فنية
مختلفة، الأمر الذي جعل اختياراته للحوادث خاضعاً لعين مصور سينمائي منشغل باللقطات
الدالة والمعبرة، والمترابطة مع بعضها بعضاً بوساطة المونتاج. إننا نرى أكثرَ مما
نقرأ. والقليلُ الذي نراه ذو طابع حركي يدعمه الوصف والسرد والتعليق القصير السريع.
ولهذا فإن القارئ/ الرائي يضطر إلى مِلء الفجوات التي يخلِّفها الانتقاء واختيار
الحدث أو الواقعة الموصوفيْن من ذاكرته ومن تجربته الواقعية، أو المعرفية
والتاريخية، ومن استنتاجاته المنطقية التي تخضع جميعاً لتأمله الذاتي الرومانسي.
لكن السباعي يحيل ما هو ذاتي إلى قضية موضوعية.
إن
نقد الذات يعني تقويماً يُشَكِّلُ أولى الخطوات الجادة نحو نقد الآخر، ويفسح مكاناً
واسعاً لعرض ما هو مشترك لأن (وراء القبح تكمن صورة الجميل ووراء صورة الشر يتوارى
الخير).[13]
وإذا
كان الاختيار والانتقاء العشوائيان يَضُران بالتتابع الزمني والتاريخي ويحتاجان إلى
لغة بلاغية تُرَمِّم وتردم الفجوات فإن السباعي لا يفعل ذلك. بل إنه يكتب بلغة سهلة
بسيطة عبر سرد أنيق، موحٍ ويوميٍّ. ولهذا نراهُ يعرّف السردَ بأنه (الأسلوبُ
الإنشائي المستعمل في تصوير الأشخاص وسردِ الحوادث وتحويلِ الأفكار والمشاعر
وتجميدِها في قوالب كلامية).[14]
على
أن المهم في تعريفه التقليدي هو (تصوير الأشخاص) الذي يتيح له إبداع وضعيات إنسانية
خاصة لشخصياته و حوادثه. لكنَّ ذلك لم يسعفه كثيراً في القصة التي تستطيع أن تقفز
فوق الأزمنة والأمكنة ما شاء لها الفن، الأمر الذي دعا السباعي إلى كتابة المسرحية
باعتبارها تجسيداً حياً لتلك الصور، أو هي تصوير حي لتلك الأوضاع الإنسانية الآن
وهنا، على الرغم من أن المسرحية التقليدية لا تسمح بالقفز وتداخل الأزمنة. لأنها
نسيج متكامل من الزمن التعاقبي المتسلسل، وكما تستدعيه الحبكة المسرحية التقليدية.
وإذا
كان تداخل الأزمنة والأمكنة في القصة يمكن حلُّه عن طريق الحذف والتلخيص والتكثيف
والتعليق والمقارنة، ويقدم للقصة حيوية حرص عليها مراد السباعي، فإنه في المسرحية
غير وارد على الإطلاق. الأمر الذي استدعى منه تركيزاً في اللغة والشخصيات والفعل.
وهي جميعاً تشكل تضافراً باهراً لديه. فالشخصية بسيطة غير مركبة لأنها شعبية. ولهذا
فإن لغتها تنسجم معها ضمن حركةٍ موحية، أو فعلٍ معبّر، لا زيادةَ فيه ولا نقصان.
يبدو
التصوير الخاطف للحوادث اليومية الاجتماعية والسياسية وغيرِها عبر لقطات سينمائية
حلاً موفقاً في السيرة الذاتية (شيء من حياتي)، كما هو موفق في الجزء الثاني من
السيرة (محطات في حياتي) الذي نشره على نفقته الخاصة عام 1990 في حمص، والذي هو
مزيج من السيرة الذاتية وأدب الرحلات.[15]
لكنه لم يفارق الجزء الأول من حيث الالتزام بالاختيار والانتقاء والتكثيف وتداخل
الأزمنة والأمكنة أو القفز فوقها لتكوين صورة شمولية من التجربة الحياتية الذاتية
بفرحٍ وتأمُّلٍ عميقين على خلفيةِ مقارنةٍ بين ما كان وما هو الآن، سواء في أوروبا
أم في حمص التي يعشقها. ومرة أخرى نجد دلالة العنوان صريحة واضحة لا لبس فيها. حتى
لتبدو حياة مراد السباعي اختياراتِ وانتقاءاتِ محدَّدةَ الأهداف. حيث يصبح الجزء
دالاً على الكل، وحيث يغدو الجزء نموذجاً فعالاً للكل.
ما
يمكن تلخيصه حول إبداع السباعي بعامة هو:
1-
لغةٌ بسيطة يومية خالية من البلاغة
المتكلفة.
2-
نماذجُ بشرية من القاع الاجتماعي في قصصه،
وأخرى من عِلية القوم في مسرحياته لها أوضاعها المخصوصة، وقد كان لها فعلها الخطير
في الحياة الاجتماعية.
3-
اقتصادٌ في الأفعال، والحركة الخارجية، بما
لا يثقل النص القصصي أو المسرحي، ومن دون إخلال بالمقاصد الاجتماعية والأخلاقية
الخاصة بالحكاية والشخصيات والمصائر.
4-
وضوحٌ في الأهداف والغايات الأخلاقية
والاجتماعية والسياسية حيث يسعى إليها مباشرة من دون لفٍّ أو دوران أو تعمية.
5-
ابتعادٌ عن الغموض والإبهام رغم أنه يجنح
إلى التصوير الفني. لكنه لا يوغل في الغموض إن اضطره الموقف الفني إلى ذلك.
6-
قصصه القصيرة هي حقاً كذلك لأنه يركِّز على
فعلٍ سردي أو درامي واحد، ويعالجه من زوايا مختلفة. ولهذا كتب السباعي ستَّ مسرحيات
من ذوات الفصل الواحد ذات النزوع الواقعي من أصل إحدى عشرة مسرحية.
7-
صدقٌ فني عالي المستوى في معالجة القضايا
الاجتماعية والأخلاقية والسياسية بسبب صداميةِ مراد السباعي لمجتمعه، وحرصِه على
مناهضة كل ما هو متخلفٌ متحجرٌ معوّقٌ لحركة تقدم المجتمع.
8-
إحساسٌ عالٍ بالمسؤولية التاريخية
والاجتماعية والأخلاقية والسياسية تجاه مجتمعه الذي تنخره التقاليد المقدسة
البالية. ولهذا كان نهضوياً تنويرياً بامتياز.
9-
تمردُه الدائمُ على المواضعات الاجتماعية
أياً كان شأنُها. ولهذا كان محارَبَاً من قبل كثيرٍ من التيارات الأصولية. الأمر
الذي يجعلنا نفهم موقفَه الصارمَ من هجوم بعض الحركات الدينية على أحد عروضه
المسرحية الذي جمع فيه النساء والرجال من الجمهور في أحد بيوت حمص، كما نفهم
استمرارَه في تقديم العروض المسرحية في أي مكان يتوفر له، ولجمهور مختلط.
10-
على أنه في المراحل الأخيرة من حياته كتب
نصوصاً سردية درامية ذاتَ طابع تأملي فلسفي أكثرَ منها قصصاً أو مسرحيات، رغم أن
شكلَها الفني شَكْلٌ حواري. وهي ثمرة تجربته الطويلة في الحياة العريضة، وثمرةُ
تأمُّلِه في علاقات الناس بعضهم ببعض. خاصة علاقةَ الفنان والكاتبِ بالناس من دون
أنْ يحيد عن لغته البسيطة. لكنها هنا تميل إلى التفلسف لأنَّ الموضوع والمضمون
يتطلبان ذلك باعتبارهما تأمليين ذهنيين، أكثرَ منهما دراميين. بل لنقل: إنهما صراع
أفكار أكثرُ منهما صراعَ إرادات على قضايا مجتمعية.
لقد
كان مراد السباعي رائداً فذّاً من رواد نهضة ثلاثينيات القرن العشرين، ومنوِّراً
عظيماً، ومحارِباً عنيداً حتى منتصف ستينيات القرن نفسه. وقد خلّف لنا بشخصه
نموذجاً فريداً للفنان الواقعي المبدع الملتزم من دون ضجيج افتعله غيره لنفسه، أو
افتعله أناس آخرون له.
****
مؤلفات مراد السباعي:
1- كاستيجا: قصص. مطبعة الشرق. حمص. 1948
2- الدرس المشؤوم: قصص. مطبعة الشرق. حمص. 1949
3- هذا ما كان: قصص. دار الفكر العربي. مصر. 1952
4- الشرارة الأولى: قصص ومسرحيات. دمشق. وزارة الثقافة والإرشاد القومي. 1962
5- الحكاية ذاتها: قصص ومسرحيات. وزارة الثقافة والإرشاد القومي. دمشق. 1965
6- تحت النافذة: قصص ومسرحيات ذهنية. اتحاد الكتاب العرب. دمشق. 1974
7- شيء من حياتي: سيرة ذاتية. اتحاد الكتاب العرب. دمشق. 1978
8-
هدية عيد الأم: قصص للأطفال. اتحاد الكتاب العرب. دمشق. 1978
9- أسئلة تُطرح وأصداء تجيب: اتحاد الكتاب العرب. دمشق. 1979
10- سباق في مسبح الدم: قصص ومسرحيات ذهنية. اتحاد الكتاب العرب. دمشق. 1984
11- شيطان في بيت: مسرحية. اتحاد الكتاب العرب. دمشق. 1990
12- محطات في حياتي: سيرة ذاتية وأدب رحلات. حمص. مطبعة الجندول. 1990
13- رسائل من شارلوت: مقاطع من رسائل صديقتي شارلوت. 1995
17 أيار 2009
إن أجمل الفن ليس في المتاحف ومحترفات الفنانين، بل في حياة موحدة الغاية
والإرادة فإن سئلتم عن أبدع آيات الفن وأغلاها، قولوا: "ضمير لا يُسخّر، وجبين
لا يُعفّر، ولسان حليم شكور، وقلب عفيف غفور، وعين لا تبصر القذى، ويد لا تزرع
الأذى، وفكر يرى في البلية عطية، وخيال يربط الأزلية بالأبدية"
ميخائيل نعيمة
[1]
- تحت النافذة: ص 7. قصص ومسرحيات ذهنية قصيرة. اتحاد
الكتاب العرب. دمشق. 1974.
[2]
- تحت النافذة: ص 7 / 8 .
[3]
- تحت النافذة: ص 7
[4]
- تحت النافذة: ص 6
[5]
- تحت النافذة: ص 8
[6]
- تحت النافذة: ص 9
[7]
- تحت النافذة: ص 10
[8]-
تحت النافذة: ص 12
[9]
- تحت النافذة: ص 12
[10]
- تحت النافذة: ص 12
[11]
- قراءة نقدية في الفكر العربي المعاصر: الدكتور محمود
إسماعيل. ص 88
[12]
- شيء من حياتي: مراد السباعي. ص
12. اتحاد الكتاب العرب. دمشق. 1978.
[13]
- شيء من حياتي: ص 14
[14]
- الشرارة الأولى : ص 11. دمشق 1962. وزارة الثقافة
والإرشاد القومي.. السلسلة القصصية (4).
[15]
- محطات في حياتي: ط 1. حمص 1990. مطبعة الجندول.
|
|
WEBMASTER : AA-ALSAAD
|
This Web Site Programmed and
Written By ABD ALMASSIH JAMIL ALSAAD
..... Copyright 2003 (C) SCOPNET All
Rights Reserved
|
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق