مجلة السنونو (
العدد الثاني ) -
قصة قصيرة
|
يا طالع الشجرة (
محمد أبو حمود
)
|
مع أنني كنت مترعاً بحب أبي الطيب المتنبي، إلا
أنني كنت يائساً مشتتاً، مسكوناً بالتساؤل والتنازل والانكسار والطفر واختلاط
الجهات.. عندما قدمت لراعي البقر التماساً، عن طريق طرف ثالث، أرجوه فيه أن يقبل أن
يرعاني. صرخ بكل مكبرات الصوت التي يملكها، إنه لا يقبل الحديث إلا وجهاً لوجه!
استعنت بالواحد القهار، وأعدت كتابة
الالتماس بخط جميل، وصيغة حبلى بالتزلف والتمجيد، وسألت موعداً جديداً مع راعي
البقر. جاءني تحديد الموعد، من خلال نفس مكبرات الصوت، كان الموعد متأخراً كثيراً،
وفهمت أن السبب عائد لانشغاله بإعداد منهج مدرسي لإحدى مزارعه، وتعيين مدرب جديد
لفريق كرة القدم في مزرعة، وتعديل النشيد الوطني في مزرعة، وافتتاح فرع جديد لبيع "الهامبرغر"
في مزرعة، وإرسال منسقين إلى مزارع أخرى، وأخرى بهدف ضبط النظام بأسلوب جيد معولم.
ذهبت إلى المقابلة، بعد أن استفدت من
خبرات من عندهم خبرة في هذا المجال. كان مقره يشرح القلب من الخارج. وقفت في حضرة
الراعي عبداً رومانياً في حضرة الإله "جوبتير".
كان مغطى بألبسـة جلدية سـوداء
لامعة تعكس أضواء غريبة، ظهره باتجاهي، مكتبه مزدحم
بالخرائط والبيانات والشاشات والكاميرات والأزرار.
بعد التحية التي لم تحظ برد ألقيت على مسامعه
التماسي. لم يسمح أن أكمل .. جأر:
ـ
أنا لا أتعامل إلا مع الوثائق الخطية.
هرعت في الحال صوب ظهره المصوب تجاهي،
ناولت يده الممدودة خلفا التماسي، سحب الورقة دون أن يباركني بنظرة.. لم يسمح
لهنيهات تمر حتى عاد للصراخ:
ـ
أنا لا أقبل توقيعاً، أريد بصماً بالعشرة.
أسرعت من جديد بعد أن أشار إلى "ستامبا"،
وبصمت ـ إنما بالتسعة ـ إحدى أصابعي كانت قد طارت أثناء عملية فدائية. ربي حميد أنه
لم يلحظ ذلك. لكنه جأر من جديد:
ـ
التماسك غير مجد في ملتي واعتقادي أنا راعي بقر وأنت لست بقرة حتى تاريخه..!
قذف الالتماس المبصوم بالهواء وجاءني
طائرة ورقية أمسكتها كطفل بائس، يائس. قلت متلجلجاً، مرتبكاً:
ـ
اعتبرني، يا سيدي بقرة.
رد باللهجة المتكبرة:
ـ
لا مجال للاعتذار.. هيا افرنقع من هنا.
افرنقعت مرغماً، رجعت وسط شارع
ليس غريباً عني، شارع موشوم بالكآبة وسوء
التغذية واليباب.
تبرع بعضهم ممن لا أدري كيف مروا بي ..
لمواساتي وتخفيف الآثار النفسية السلبية المتمخضة عما حدث، ثم كشف معظمهم عن علاقة
طيبة مع الراعي المحترم. تعلقت بهم. تدللوا أول وهلة. ثم بعد تردد مفتعل قدموا لي
نصائح هي ـ كما همسوا في مسمعي ـ لوجه الله والحضارة والجيتر. وأشاروا علي
بالانتساب إلى إحدى الدورات التدريبية المنتشرة على أصقاع اليابسة والمحيطات فوقاً
وتحتاً والتي يشرف عليها خبراء مجازون من هيئات "منوبلة" ويتم تقاضي رسوم تتفاوت
بحسب درجة الاستجابة للدروس، ودرجة الانضباط، ومدى الاستمتاع بأفلام "الويستيرن".
في افتتاح الدورة، التي أدرج اسمي ضمن
من سيتبعها، جرت طقوس مدهشة أهمها أنهم في المرحلة الأولى ثبتوا في مؤخرة كل مشارك
ذيلاً. قلت لا بأس، الذيل مفيد أحياناً، وضربت لنفسي مثلاً عباس بن فرناس. في نهاية
كل ذيل ثبتوا أيضاً مصباحاً صغيراً، بغية تنظيم السير ليلاً، ومنع اصطدامات قد تفضي
إلى نتائج مجهولة.
في الدورة تبدى فشلي جلياً في المرحلة
الأولى التي لم أتمكن من اجتيازها بنجاح. ورسبت مرات لا تحصى ..
مرة لأنني لم أسـتطع التخلص من بقايـا
الصوت الإنساني الذي شاب محاولاتي التدريبية على
الخوار.
مرة لأنني سألت عن دورة المياه.
مرة لأنني، عندما لم أجد الدورة المذكورة،
حاولت التستر عند زاوية.
مرة لأنني ابتسمت لمشهد.
مرة لأنني حزنت لمشهد.
مرة لأنني وحدت ربي..
مرة لأنني كفرت.
ومرة.. ومرة..
حيرت المدربين المنوبلين والذين
كانوا يقترحون في كل مرة فشلت بها على قيادة الدورة إطالة ذيلي عدة سنتيمترات،
وكانت الموافقة سريعة على الاقتراحات.
أحالوني بعدما جرى، إلى فرع خاص
بالتعامل مع أصحاب "القرعات" اليابسة.
حضروني محاضرات ذات أساليب حديثة في
إلقاء الأضواء على "التبقير" ومحورية دورة في العمل الديمقراطي المعولم.
لم تفعل بي فعلها دورة الفرع الخاص.
فشلت مرة أخرى.
أدركت أن لا فائدة من الاستمرار.
قررت سريعاً الخروج من الدورة على الفور. اتجهت صوب ما افترضته الباب، وقبيل
وصولي إليه قبض علي بفظاظة وقسوة أيد حديدية. ثم سوقي إلى مكتب المستشار الأمني
للدورة حيث خضعت لاستجواب، أفصحت خلاله عن قراري بالتخلي عن الدورة .. قال لي
المستشار بتكشيرة:
ـ
أنت انضممت للدورة بشكل ديمقراطي بمشيئتك وتخرج منها بشكل ديمقراطي بمشيئتنا.
عليك أنت تعلم أنه لا يخرج إلا على أربع.
سمعت صفيراً صدر من جهاز وفهمت أنه
إشعار لمن أحضرني بانتهاء الاستجواب. أعدت إلى ساحة التدريب منكسراً ومعمقاً
قراري بالخروج. صارت عيناي لائبتين في البحث عن منفذ.
معظم ما خلته منافذ، كان زجاجاً
صلداً محشواً بالكاميرات الخفية والأجهزة الفائقة الحساسية. اكتشفت أن الخروج أشق
بكثير مما خطر ببالي.
من الأكيد أن أجهزتهم الخفية
والظاهرة نقلت لهم تصميمي على ترك الدورة ومحاولاتي السرية على تنفيذ ذلك.
على حين غرة نقلوني إلى مكان آخر،
مكان لا أدري كيف أصفه. مرايا بأشكال غريبة، أجهزة والآت غير مألوفة، تثير الفزع
والنفور. ثم شرعت الأجهزة بالحركة والعمل.
عرفت أنني في مسلخ مرعب. بشر بأشكال
متباينة وأعمار مختلفة، بعضهم كان يشبه أقاربي وأصدقائي وجيراني. أطفال يحملون
دمى، شيوخ يتكئون على عصي، نساء حوامل، صبايا، أشكال، أشكال. رأيتهم كلهم يدخلون
المسـرح على شـريط متحرك يذبحون، يفرمون، يهرسون، يسحقون،..
سحبت، وأنا أرتجف مثقلاً برعب فوق
طاقتي سرق من نسغي ما سرق، إلى أمام مرآة هائلة. شاهدت في المرآة بقرة.
حركت يدي اليمنى، حركت البقرة
قائمتها اليمنى..
حركت اليسرى، حركة البقرة يسراها..
حركت رأسي، فمي، ساقي، كانت حركات
جسم البقرة تتزامن وتطابق مع ما حركت.
أخرجني الشريط المتحرك إلى ساحة
التدريب.
شرعت في رحلة جديدة مختلفة.. بدوت
مطواعاً، مذعناً.
تقلص طول ذيلي بقرارات متتابعة حتى
وصل الطول العادي "الستاندارد".
منحت أوسمة من شركات حليب كامل
الدسم، ومن أخرى تصدر "المرتديلا" البقرية.
شاركت في عروض، أنشدت مع الحضور مرات
متعددة " يا طالع الشجرة هات لي معك بقرة..".
ما زلت مسكوناً بالحنين والذكريات
وحب أبي الطيب المتنبي.. ترى أين سأذهب بكل هذا الذي يسكنني؟.. ترى أين سيمضي بي
كل هذا الذي يسكنني؟.
محمد أبو حمود (حماة):
يكتب
القصة القصيرة ـ مدرس لغة إنكليزية ـ مواليد 1948 ـ صدر له القبعة الزرقاء ـ قصص
1995.
|
WEBMASTER : AA-ALSAAD
|
This Web Site Programmed and
Written By ABD ALMASSIH JAMIL ALSAAD
..... Copyright 2003 (C) SCOPNET All
Rights Reserved
|
رابطة اصدقاء المغتربين تأسست عام 1973 وكانت رأيستها الاديبة الراحلة نهاد شبوع وتم اصدار 12 عدد فقط في بيت المغترب في حمص .
الأحد، 1 نوفمبر 2015
مجلة السنونو ( العدد الثاني ) - قصة قصيرة - يا طالع الشجرة ( محمد أبو حمود )
الاشتراك في:
تعليقات الرسالة (Atom)
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق