مجلة السنونو (
العدد الحادي عشر ) -
خاطرة
|
|
قبل أن
يصافحني الموت ( بقلم : منصور عازار
)
|
|
قبل أن
يصافحني الموت
بقلم:
منصور عازار
قطفة من عناقيده السّـُكَّر.. نتقاسمها على مائدة السنونو.. من
كتابه الجديد (التحية الأخيرة) هديته إلى
" السنونو" المنوّه بها في باب هداياكم لنا.. ص183 من "شؤون
البيت"
هاأنذا أمد يدي وأبسط كفي، لكن الموت يتردد في مصافحتي. بتّ مستعداً لتحية الوداع،
لكنه لم يعطني المنديل الأخير، لألوّح به للأحبة، وانا أتسلق السلم الأخير من سنوات
العمر. هاأنذا، انفخ في الضوء الفقير جداً، بما تبقى من زيت مصباحي الجاف، وأعجز عن
إطفاء الشعلة النحيلة، لأدخل في العتمة المنيرة.. هاأنذا يعاندني موتي، ويعطيني مرة
أخرى، فرصة الالتفات إلى ماضيّ، فرصة الانحناء على أيامي السالفة، لأحدثها قليلاً،
لأتكلم معها بحنان، لأخطف منها اوراقاً لا تزال تحتفل بالأمل.
هاأنذا أقول: " غداً، لن يكون لي. هاأنذا، أطفئ أمسي. أرتب أنفاسي الأخيرة، بهدوء
من تعلم، أن صداقة الموت سيادة على الحياة." اراقب باطمئنان قلبي المتعب. أعرف أنه
سينام بهدوء، وسيأخذني معه إلى غفوة أخيرة.
ما
تبقّى من الزوادة، لا يكفيني لكتابة وصيتي.
إلا أنني، على عنادي المعروف، سأواظب على لملمة الفتات الباقي، لكتابة الكلمات الأخيرة. فقد وفرت لأبنائي وأحفادي وأصدقائي، زوادة أخرى يأخذون منها، بنبذة من حياتي، فاكهة من أفكار، عسلاً من رحيق التجارب، نبيذاً طيباً، هو عصارة عمر، نضجت عناقيده، على عرائش الألم وامتدادات أعضائه المرهونة لخضرة الأمل.
لذا
منذ اليوم، سأبدأ بترتيب روزنامتي، متكلاً على تغيّب الموت عني، لأملي وصيتي التي
تأخرت كثيراً في تحضيرها.
تحضرني في حياتي، أوّل تجربة لي مع الموت، فزت فيها، وتجربة أخرى، تفوقت فيها،
تجربة ثالثة، خرجت منها حفيفاً كجناح يستعد للتحليق، لآخر مرة، قبل أن يأوي إلى عش
الكون الواسع، المقيم في الأزرق السماوي.
نُقلت على جناح السرعة من نيجيريا إلى لندن. عاينني الطبيب وبعد أيام، منحني بطاقة
حياة جديدة، بشرط ألا أرهق نفسي. فقلبي معطوب، ويحتاج إلى استراحة المحارب. وكان لي
من العمر 64 عاماً تقريباً. أظنها لم تكن كافية للدخول في قيلولة المحاربين، لأصبح
من المحاربين القدامى.. 64 عاماً، كانت لي، أنني ما زلت شاباً، وان آمالي احتفال
يومي بالحياة.
سألني الطبيب ما عملك؟ قلت: أنا رجل صناعي، وأنا أيضاً رجل قلم، وأنا أيضاً رجل
قضية.
فطلب
مني أن أحمل بطيخة واحدة على الأكثر. وعدته خيراً، ولكني كمدمن عمل، ومراهن على
النجاح، وممتهن الفوز، وقررت أن انكث بوعدي وأعود إلى بطيخاتي لأحضنها... بعد عامين
صرت أرعى بستاناً من البطيخ.. ولم أشعر يوماً بالتعب.
ومرة
أخرى، وبعد عشرة أعوام تقريباً، حُملت على وجه السرعة إلى لندن. عاينني طبيب القلب
يا للصدفة إنه هو نفسه سألني: كم بطيخة حملت؟ ابتسمت له. فعرف اني مولع بالشقاء
اللذيذ، والعمل الدؤوب، والسعي الذي لا يهدأ. عرف أنه لا شفاء لي. فاستعجل العملية،
وأصلح أعطاب قلبي مرة أخرى، كي أستمر في حمل صليبي، إلى النهاية.
انذرني الطبيب: الثالثة ثابتة، أي " قاتولية"، ولكن عندما دخلت في غيبوبة طويلة، ظن
الكثيرون، أن نومي نهائي، وأن موتي قريب ومؤجل إلى الغد فقط.
لكنني عدت واستيقظت. غريب، عندما عاد إليّ وعيي، ونظرت من حولي من الأحبّاء: الزوجة
والأبناء والأحفاد والأصدقاء، قفزت إلى رأسي فكرة الاستسلام. قلت: كفى يا رجل. عليك
أن تركن إلى تعبك. أن تهدأ. أن تقتات من أحلامك.
بعد
أيام، عادت إليّ الأسئلة وأولها: " ما العمل"؟
أنا
الآن سأملي وصيتي، التي دوّنت تفاصيلها في أجزاء حياتي وكتاباتي ومشاريع. وأهدي هذه
الوصية إلى أحفادي، ومن هم في أعمارهم، علهم، يجدون فيها قوتاً، من خزانة عتيقة،
يسعفهم في مستقبل أيامهم ولياليهم القاسية.
أصابعي تتردد في الكتابة، لم أعد قادراً على بعثرة حياتي، فأفتح ذاكرتي كلها،
لتدوين ما خبأته فيها، وما حفظته في زواياها الحنونة. أصابعي خائفة من ملامسة مواطئ
التعب والجراح. فقد كان العمر صعباً، ومراس الحياة كان مريراً.
لست
أخجل من عمري المديد. الحصاد كان وفيراً. الحقول كانت شاسعة. والسماء لم تكن بخيلة،
إنما الدهر غلاب. أنصفني سنوات، وظلمني أخرى. كان متقلباً جداً يترك في النفس حسرة
لا تجرؤ على الإفصاح بالتأوه أو الدمع، لأنني كنت املك من القوة ما يجعل عواطفي
مقيدة وانفعالاتي أسيرة. وكنت أراهن على فجر آخر، كلما ادلهمّت الأيام بسواد
التغيرات المأسوية.
من
أجلكم يا أحفادي، أعود إلى الماضي. سأمضي معكم أيامي الباقية، وأكتب لكم ما أغرفه
من جعبتي من خبز التجارب وأتناوله م زوادة الخبرة، متخطياً وجعي إزاءكم، لأني أدرك
أن لغتكم العربية محرومة من الصواب والقراءة، ولأن لغات الآخرين أطيب على لسانكم.
والحق ليس عليكم، بل على بلاد لم تحتفظ بفلذات أكبادنا، فشردتهم مراراً، تارة بسبب
حروب الطوائف، وطوراً بسبب العجز عن بناء وطن محب ومنتج.
أملي، وأنا أكتب، أن تقرأوه مترجماً إلى لغة تفهمونها، وعندئذٍ ستجدونني معكم
دائماً، على الرغم من غيابي النهائي. ستجدونني معكم في دروبكم الوعرة، ومسالككم
المتعرجة، ونجاحاتكم المتوقعة. ستجدونني أسندكم في عثراتكم، أشير إلى خطاكم، أرشدكم
دوماً إلى طرق النجاح.
لن
تكونوا غداً مع المجهول... سأكون معكم.
كل
ما أتمناه، أن يكتشف كل منكم نفسه، والاكتشاف لا يتم دفعة واحدة.
فأنا، ما زلت أكتشف نفسي، والاكتشاف لا يتم دفعة واحدة.
فأنا، ما زلت اكتشف نفسي، تجربتي مع الموت، تحفزني على معرفة ذاتي. ذواتكم غنية.
ابحثوا فيها عن الجواهر الثمينة. إن لم تفعلوا دفنت الجواهر، وظلت مطمورة بالإهمال.
فالإنسان ليس ما يأخذ، ولا ما يعطي، بل ما يكتشف وما يبذل وما ينتج... الآخذون من
الحياة، غبار، الواهبون للحياة، هم الصبح الذي يتجدد.
صعبة
هي الحياة، ولكن ندبها على طريقة الفيلسوف أبي العلاء المعري، دليل على شيخوخة
الروح. الحياة صعبة، جميلة ورائعة، وأجمل ما فيها، قوة الانتصار على مصاعبها، لذا،
لا تكونوا سكة حديد للقطار الزمني يعبر عليكم بأيامه. كونوا القطار الذي يطوّع حديد
الأيام، ويتفوق عليها.
صعوبة الحياة... بطاقة انتماء إلى الانتصار والنجاح أما الحياة السهلة، فمدعاة
لركوب الكسل والاتكالية والتراجع.
صعوبة الحياة التي مررت بها منذ طفولتي وهجرتي وسنوات الغربة، وتأرجحي بين النجاح
والفشل، والتقلب من حال إلى حال، هي التي وسمتني وأعطتني خبرة لا تنضب من الحب
والعمل والتغلب.
لست أعدّ الأيام للرحيل، أعدّ الأيام للبقاء بينكم، لأتمم واجباتي إزاءكم. أنا
زائل، ولكن الحياة باقية. ولم يكن رهاني على نفسي، بل على الحياة فهاأنذا، وفي آخر
العمر، أصافح عمري كله، وأقبله كما كان وباطمئنان: لقد أتممت رحلتي، أتممت مهمتي.
كانت الكأس التي شربت منها ممتلئة دائماً، فلا تكسروها غداً.
|
|
WEBMASTER : AA-ALSAAD
|
This Web Site Programmed and
Written By ABD ALMASSIH JAMIL ALSAAD
..... Copyright 2003 (C) SCOPNET All
Rights Reserved
|
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق