مجلة السنونو (
العدد الحادي عشر ) -
خاطرة
|
|
رسالة إلى
أمي ( بقلم : سميرة رباحية طرابلسي
)
|
|
رسالة إلى أمي
بقلم:
سميرة رباحية طرابلسي
في زمن لا كالزمن نشعر بأننا تائهون
وحيدون، يعصر الألم اجسادنا بلا مسوغ وتلهوبنا الغربة كالدمى تتجسد فينا وعبره
خواطر كالجمر، تتناثر ضمن أوراقنا المبعثرة.. فنروح ننادي لا كالنداء.. ننادي دون
أن ينزف أي جرح في قلبنا ونطير إلى أقرب حب يسكن فينا.
أهتف إليك يا أمي لأخبرك عن تلك
الوحدة التي تنتابني في عالمي الفسيح، ثمة أحد يشاطرني إياها، تلك الوحدة تجعلني
أرتب أوقاتي لأتجاوز الدقائق والساعات وأولد من جديد معك في مد واسترسال وطاقة حنين
لسنين جافة طويلة عجفاء وأنت تتجولين في يوم أصيل اشتدّ قيظه بأرضنا الغالية حيث
يتوسد البطش فيها، في الجولان الحبيب وفي عهدتك الصرّة الغالية ومحتوياتها المتجذرة
في أرض من تراث يمتد آلاف السنين.
ألا ليتني ألمسها من بعيد لأتبرك
بالقليل من عظام أخي الشهيد وأنت تفتشين بصبر وتأن لعل الأيام تسعفك وتترفق بك
السماء بعد جفاف طال أمده، وشتاء اكتنز أسى وبؤساً فتهتدي إلى مقبرة العائلة.
هنا من عزلتي أسافر في ذاكرتي الظمأى
لرائحة الخبز الذي تقاسمناه معاً، ولصدى الحكايا التي تفترش زوايا جسدي وفي غمار
دويها الذي لم يحجب عني ألم الهرب عن مضارب بيتي وعشيرتي صحوت على خبايا نفسك
المنهكة القائلة: بأن الوطن كحبة القلب في بدنك وكنبض الشريان التاجي.
وها أنت أنت ذا... وأنت تحملين عبق
التراب في الوطن المهشم وتوحد المكان الذي يوشوش بأسراره في قلبك المعذب تتماهين
معه بأمطاره وشمسه بشموخه وأطلاله الحزينة دون وداع، تتماهين مع صرتك مؤاخية بين
ذاتك والعالم لعل الأيام تجعلنا نحن المبعدين نتفق وننبذ خلافاتنا ونمشي صفاً
واحداً في أرضنا الغالية التي تتسع للجميع.
أراك من بعيد تطلبين بلسماً لجراحك
المكلومة لتحفري بيديك حفرة تريدين لعظام أخي جمعاً ولماً ليصبح وهو الشهيد ابناً
للطبيعة وجزءاً منها ولتستقر صرتك بصمت وحيدة فيراك الخالق دون ادعاءات مع وشوشات
أوراق الشجر الجرداء، ورائحة النعناع اليابس، وأشجار السرو الهرمة المكلومة، وخفق
أجنحة الطيور التي تحط في تحفز محيية مصفقة بأجنحتها فرحة بعودة أهل الجولان وهم
يجتمعون ليوم واحد في السنة لرؤية أولادهم وأحبابهم من وراء الجدار الشائك، يحيون
التل العالي الذي اتصلت مئذنته ببوابة السماء، ويعاينون الكنيسة التي تعمّد فيها
أخي الشهيد، حيث صارت أرضاً قفراء، وينادون ألوان رغائبهم التي يغزلها الشوق لرؤية
أهلهم وخلانهم مطوقين من بعيد خاصرة الدقائق الجياشة بالحب والقهر معاً.
أتمنى لو جسدي ريشة والمدى طائر يجدد
ألوانه على جراحي الغضة فيكسبها بلسماً يلقي بضوئه على نشوة المتعة التي نستمدها من
أرض الجولان من لألاء سواقيه، وخضرة بساتينه وقلوبنا تهفو لسماع أصوات تكبيره ودقات
أجراسه، نشرب من مفاتن كرومه ونستحم عبر وديانه الخصبة كعروس تتهيأ لليلة زفافها
يزفونها بقصائد وروايات لا تني تصف إلا البندقية وبطولات أجيال المقاومة، شعارها
ابتسامة التحدي الذي ينصهر تحت جنح الليل يلمع لمعاناً فضياً يروج لاستمرارية
الحياة كالفينيق الطائر باعث الرجاء حيث ستنبعث عظام أخي الشهيد مع ارتال الشهداء
المبعثرة على هضاب جبل الشيخ وبطاح الجولان ومجدل شمس تعلن عن بطولات كبيرة في ساحة
الحرية والشرف.
أراك في تجوالك ثانية وثالثة تعانقين
الأرض وصوتك يحتضن الزهر والشجر من وراء الأسلاك الشائكة ويقتنص الخيال بخلجاته
مرددة: لم يمت بعد قيثار ابني وأخي وتتكئين في هذه اللحظات الهاربة من العمر لتفتشي
عن مستقر لعظام الشهداء، وكأن باندورا تطلق عليك من صندوقها كرات فضية وذهبية من
الأمل الكامن في النفس والمتجذر في الإنسان، تهيب بنا بدعوة مفتوحة لإعادة الحسابات
وضم الأيدي فنقوى على استرجاع ذواتنا لنفتش عن معاني حضارتنا ونؤمن بأن أي باحث
تاريخي أو مدع لا يستطيع أن يمحو شعبنا من ارتباطه التاريخي بأرضه وجبالها وسهولها
وأن أي ادعاء خاطئ أو أي خطاب يردنا من الخارج لا يؤثر في الأجيال القادمة بل يشدد
على نمط هويتهم العربية ويدحض التأويلات الغربية التي تنتهك كرامة الإنسان العربي
ويظهر الحق جلياً بعودة الجولان فأكون وإياك إلى بيت طفولتي تلاحقني أنفاس دروبها
وترقص أمواج مياهها امام ناظري، فتدور الحكايات من جديد في الحي وأشم رائحة مفتاح
أبوابها بكفوف الصبايا وقبضات الشباب لنتكئ في لحظات يمتزج فيه فضاء المكان وفضاء
الزمان لنكون معاً نشرب القهوة ونمشي على حفيف أوراق الأشجار اليانعة المثمرة عندها
نتحرك الأماكن في الذاكرة العامة لأبعاد لا يحدها حدود ولا تدخل في نطاق الزمن،
وينضج الحب فينا فتصبح العلائق أكثر صدقاً وتتحول إلى لوحات شعرية ترفدنا بالنقاء
والتضامن، فتنطفئ أفواه الشائعات التي تثير الزوابع والتحدي، وينكشف الغطاء عن
عالمنا الطامح للاستقرار لنكون نحن، وانت، وهو، وهي، أبناء وطن واحد، وأبجدية
واحدة، شروق شمس لا تأفل ولا تغيب.
كم
بومة لا تعرف من الأغاني غير ما شابه نعيبها، أنا وأنت نعرف مشعوذي الكلام
الذين لا يحترمون إلا من كان أكثر شعوذة منهم، هؤلاء الذين يحملون رؤوسهم في
سلال إلى السوق ويبيعونها بأول ثمن يعرض عليهم.
نحن نعرف الأقزام المتحاملين على من تلمس رؤوسهم السماء ونعرف ما يقول العوسج
عن السنديانة والأرزة.
جبران خليل جبران
|
|
|
WEBMASTER : AA-ALSAAD
|
This Web Site Programmed and
Written By ABD ALMASSIH JAMIL ALSAAD
..... Copyright 2003 (C) SCOPNET All
Rights Reserved
|
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق