مجلة السنونو (
العدد الحادي عشر ) -
خاطرة
|
|
أغرب من
الواقع ( بقلم : د. قصي أتاسي
)
|
|
أغرب
من الواقع
بقلم:
د. قصي أتاسي
رطّب الله ثرى الصديق الراحل القصّاص "حسيب كيالي", وعطّر
ذكراه. فما كانَ أحلى الجلوس إليه والاستمتاع بنوادره وتعليقاته اللاذعة الفكهة.
ولستُ أنسى قولته الشهيرة: "يا جماعة لا تقولوا: أغرب من الخيال.. بل قولوا: أغرب
من الواقع!!", وكان يشفع هذه القولة بالبرهنة على رسوخ صدقها وجديّتها بأنّ أحداثاً
وحوادث قد شهدها وعاشها وعايشها فيها من الغرابة ما لا يكاد يصدَّق وما لا يمكنه أن
يخطر في البال أو يتصوره خيال مهما سما وحلَّق, ولكنها أحداث وقعت وحوادث جرتْ على
أرض الواقع لا في عالم الأحلام! وهي لغرابتها تسبق الخيال وتفوق التصور وتزري
بالوهم والخرافة.
ونحن اليوم نعيش ونعايش الأحداث الفاجعة في العراق الشقيق...
أرض الرافدين, مهد أقدم الحضارات تطلع عليها الشمس ثم تغيب على مئة جثة ممزقة نتفاً
وأشلاءً لأطفال ونساءٍ وطلاّبٍ وعمّال.. شرقاً وغرباً ليصبح أمراً مألوفاً لا يثير
استهجاناً ولا يبعث غضباً بل لا يحرك ساكناً بل لا يعني شيئاً, فلقد تعودت عيون
الملايين العرب هذا المنظر وألِفتْ مروره على شاشة التلفاز كما يمرُّ مشهدٌ طبيعيّ
أو لقطة درامية أو خطابٌ في حفل أو نطوة في فندق أو دبكة في عرس أو منظر
راقصةٍ-مغنية تتخلّع وتتلوّى!!
وعايشنا وعشنا المهزلة-الفاجعة, مهزلة فصائل المقاومة
الفلسطينية تتقاتل وتتناحر ويسقط من بينها القتلى والجرحى على أرض فلسطين.. وكأننا
مع عبسٍ وذبيان في داحس والغبراء.. ثم تنعقد المؤتمرات وتدور الاجتماعات والمفاوضات
والمباحثات لعلّ راية الصلح ترتفع ولواء السلام يرفرف فيتمّ الوئام بين إخوة
السلاح, ولا ينقص المشهدَ إلا شاعر معاصر يتشبه بزهير بن أبي سلمى ليدعو إلى نبذ
القتل والقتال, ويذمّ مساوئ الحرب ويشيد بفضائل السّلم والسّلامة مذكِّراً بالأواصر
والعلاقات والروابط وضرورة تمتينها وشدِّ أزرها في وجه العدوّ الغاشم!
وكانت المرابع والمقاصف تتبارى في تقديم ما لذّ وطاب من المآكل
والمشارب, وتوفير ما يسرّ العين ويمتع الأذن ويبهج القلب ويداوي الأعصاب العليلة
ويهدهد النفوس المتعبة... وإذا الحالُ غير الحال, وإذا المرابع اليوم تتبارى في
الإزعاج والتنغيص والتكدير, وكأن لها ثأراً لدى أذواق الناس وأمزجتهم وراحة
بالهم... فليس إلاّ حبٌ كثيفة من دخان النراجيل تزكم الأنوف وتخنق الأنفاس, وليس
إلاّ رعودٌ من ضجيج الطبل والزمر وزعيق الآلات ونهيق الحناجر, تحاصرك لتجهز على ما
بقي من بقايا قدرتك على الصبر!
ولكنَّ هذا الجحيم من الصّراخ والزعيق يلاحقك أينما توجّهت: في
وسائل النقل الصغيرة والكبيرة, وفي المحلات التي تتسابق في نصب مكبرات الصوت على
أبوابها, وهي لا تكلّ ولا تملّ من إذاعة الروائع والنفائس من أصوات الناعقين
والناعقات! وكذلك الأمر على شرفات منازل الجيران الذين أقسموا على أن يقدّموا لك
البرهان على أذواقهم الرفيعة وثقافتهم الموسيقية العالية وحسّهم الفني الرهيف
وحُسْنِ فهمهم لآداب الجوار!
وهذا الركام الهائل من المجموعات الشعرية تطالعنا كل يوم...
جرّب أن تتصفحها لتطّلع على ما فيها فماذا أنت واجدٌ على صفحاتها؟ إنه الكلام..
وليس إلا الكلام.. أما الشعر ومقوماته من لغة وصورة وانفعال وإيقاع فهيهات هيهات,
بل إن كثيراً من هذه المجموعات لا يصلح إلا للتندّر والتفكّه وإثارة الضحك العريض,
وذلك لغلبة الهذر والهذيان وسخف المضمون وتفاهة اللغة وركاكة العبارة... ولكن هل
تعلم أنَّ هذه المجموعات قد حظيت بموافقة وزارة الإعلام ومباركة اتحاد الكتاب
العرب؟ واسأل نفسك إذن: هل قُرئتْ هذه النماذج من قبل القيّمين حقاً على لجان
القراءة في اتحاد الكتاب؟ إنْ كان ذلك فيا للعجب!
وإنْ لم يقرأها أحدْ وأجيزت طباعتها فما أعجب وما أغرب! ولكي لا
أُتهم بالمبالغة والتجني فيما أدّعي من أمر هذه المجموعات أقول: إنَّ عندي منها
عدداً وافراً لمن يريد التفرّج عليها والانتفاع بما فيها, وأنا أضعها بين يديّ من
يشاء معارةً بل مهداةً إليه... وأجري على الله في خسارتي!
عطّر الله ذكرى الصديق الراحل القصّاص "حسيب كيالي", ما كان
أصدقه وما كان أبلغ قولته: "يا جماعة لا تقولوا: أغرب من الخيال.. بل قولوا: أغرب
من الواقع".
|
|
WEBMASTER : AA-ALSAAD
|
This Web Site Programmed and
Written By ABD ALMASSIH JAMIL ALSAAD
..... Copyright 2003 (C) SCOPNET All
Rights Reserved
|
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق