مجلة السنونو (
العدد الحادي عشر ) -
خاطرة
|
|||
غموض أم
إفلاس ( بقلم : عبد الخالق حموي
)
|
|||
غموض أم إفلاس؟
بقلم: عبد الخالق حموي
ما يسمى فصائد شعرية حديثة
كالجراد على اخضرار الحقول، كما هب على صفحات الجرائد المغزوة بهذه الهيمنات.
والقارئ المتابع " الذوّاق" أمام
إحدى حالتين، حين بصبر متأنٍ يقرأ ما يُكتب مما يسمى في عصر الحداثة "شعراً؟"،
إما أن يصل إلى منطقية ما يبوح به هذا " الشاعر"، أو تلك " الشاعرة"، وهذا مر
إيجابي، إلا أنه من النادر أن يستدلّ إلى ما كتب من معانٍ راقية، أنيقة، تدعوه
بأمانة إلى القبول بأنه يقتسم مع الذي كتب حالة من الوعي، وهذه إيجابية لقلة
نادرة مما يسعون وراء اسم " شاعر" أو "شاعرة". وهذه الحالة الواعية، ربما كانت
إحدى الأسباب المباشرة والهامة للكتابة.
والغموض بكل أنواعه، إنما مسبباته
كثيرة، وربما كان أبرزها ضعف الخلق الإبداعي لدى المعني أو المعنية، وربما
يكتنز مفردات غاية في التعقيد لإيهام المتلقي بالتخلف الثقافي، ومن ثم الاختباء
وراء الرمزية الجوفاء، والتي هي في داخله هو، ويدعو القارئ للارتقاء نحوه
بالزاد الثقافي المستمر والمساير للحداثة.
وربما يختبئ وراء هذه الرمزية "
المبتكرة" خوفاً من سيف الرقيب والواقع المعاش، فيقنع الذات ومن يسايره في
"مبدأ القطيع" بأن ما كتبه كان ارتقاءً بالغير نحو الحداثة التي نعيشها، فينبري
يدافع عن كلمة خطّها يراعه الفريد والمحشوة غصباً في تلك الأسطر التي يسميها
وأنصاره " شعراً"!! وربما تسكنه قناعة بأن التسطيح في الكتابة يقوده على
التنازل عن مرتبة يعتقدها في تصاعد، فيلجأ إلى التركيز بكثافة يقوده إلى
الغموض.
وهناك علّة تشغله باستمرار، يسعى
من خلالها إلى تقليد ما هو أجنبي بأسلوب "كربوني" النقلـ فيقع في اضطراب بيئي
ويتهم الغير وتلك البيئة التي يعيش كل أحداثها وطبيعتها بالتخلف عن مسايرة
العصر والزمن، ويقع بعدها في اغتراب عما حوله، ويعيش في عزلة يعتبرها ملاذاً له
وسط الغرباء...
يقول تولستوي:
" لو كنت مكان القيصر، لأصدرت
قانوناً يمنع أي كاتب عن الكتابة عندما يُكتشف أنه قد استعمل كلمة واحدة في غير
محلها".
والاختباء وراء تراصف الكلمات
المبهمة، يعتقده تعويضاً عن الأدوات الفنية التي يفتقدها، فيصف الغير بالتقليد،
والعودة إلى الأجداد، ويدعو إلى النهوض نحو الرمزية التي تقوّي عاطفتنا بما
نضيف إليها من خيال وصور ومعان ٍ إيحائية.
يقول فونتاني:
" ليست البساطة هي الأجمل، لكنها
الأنبل".
والكتابة بلغة غاية في التعقيد،
إنما تقطع بين الكاتب والقارئ خيط اللغة التي هي أداة الاتصال الأولى الواعية
بين الناس، إذ أن مفردات اللغة كانت جسوراً للانتقال إلى وحدة الصف تفادياً
للمشكلات التي ربما تقع، لأن أداة الاتصال هذه إن فـُـقِـدت، فإن الوظيفة
المنوطة بها قد تتلاشى.
وهناك ادّعاء آخر يخترعه أدعياء
الشعر الحديث الرمزي التجريدي العولمي، بأن ما تقوم به وسائل الإعلام والاتصال
من صحف وتلفزة وانترنت وفاكس وهواتف محمولة تفي بالوصف بكل دقة، فلم ينهك هؤلاء
أنفسهم في خلق ما هو ممكن خلقه في صورة فوتوغرافية أو لقطة تلفزيونية " كما
يدّعي هنا أيضاً من يخربش تجريداً في رسوماته". وهذه الصور والدقة والتعابير
تنقلها هذه الوسائط، وتقوم مقام الطبيعة، كما مقام الشعر المفهوم البسيط.
ولكن في هذه التداخلات المغرضة
نحو دفن الفن الحقيقي، فإن للكاتب معلم واحد، هو القارئ... كما يقول غوغول.
والشعر المفهوم علاقته مع الناس،
مع المحيط، فلا معنى لاختراع أنماط جديدة للشعر ليشار إلى أصحابها بالبنان،
فهذه ذاتية مغرقة مستنقعية، تتملك الكاتب وتحيطه بطحالبها للوصول إلى تلك
"الأنا " المتورمة الآيلة نحو الضمور.
وهناك آفة أخرى تنهش لدى المعني
كل حواسه وتصرفاته، وهي الانجرار وراء الحداثة على حساب أي قيمة فنية عميقة
وبسيطة تنحو باتجاه الصدق والصح.
يقول آنجلز:
"في الأدب كل شيء قيّم، ليس في
حدّ ذاته، بل بعلاقاته مع الكل".
إن اعتماد الشاعر " الحداثي" على
ثقافته وخاصة الغريبة منها، دون الالتفات إلى تجاربه الخاصة مع المحيط، لهي
استغراق لاهث مع من كان قدوته "حسب رأيه، في تلك البلاد، وهذه تضع جداراً
متكلساً شديد القساوة بينه وبين المحيط، وغصباً عنه تلبسه هذه العزلة ثوباً
هجيناً ما عاد بمستطاعه خلعه لئلا يخلق تناحراً مع الشخصية التي بسطحية ثقافية
يعتبرها هي المشعة واللائقة لمجتمع كهذا يعتبره متخلفاً.
يقول جورج أمادو:
يجب أن يكون الأدب سلاحاً في يد
الإنسان، فاطعاً كالسيف، وبسيطاً كالخبز.
وكم عاد شعراء الحداثة والرمزية
والسريالية إلى جادة المنطق حيث شحذت هممهم المشاعر الإنسانية الحقة التي عانت
منها شعوبهم، فخلعوا ثياب الإيهام والحداثة، وارتدوا ما يليق بقيمتهم التي عادت
بحق حين اقتربوا "بقناعة" إلى المجتمع الذي يعيشون ضمنه.
يقول ليسنغ:
" ليس بإمكان شيء غير حقيقي أن
يكون عظيماً.
حتى اندمج بعضهم مع ثورات شعوبهم
صد ما هو غير طبيعي ومنطقي واستغلالي وجبروتي وأناني. بول إيلوار، الشاعر
الفرنسي، عاد إلى الواقعية لإفلاس أفكاره الحداثية وقحطها وبعدها عن الشعب.
يقول: لا حجر أثمن من الرغبة
في الثأر للبريء
لا سماء أسطع من صباح
يسقط فيه الخونة
لا سلام على الأرض
إذا اغتفرنا جلاديها
وربما بعض الأسباب الموضوعية تقف
في طريق استيعاب أدنى وأسهل شروط الأدب والفن، كالتسلط والأمية والفقر، لكن لا
يعني أن يصبح من يملك إحدى هذه، أو كلها في خندق مقابل يعتبره الحداثيون لأدوات
الارتقاء نحو عالم الفكر الحديث والبعيد عن التقليد والتبعية وربما، بل الأكيد
بأن الكتابة بلغة راقية وبسيطة غير محشوة بألفاظ متراكبة بعشوائية تراصفية غير
منضبطة، أصعب وأنقى وأقرب إلى حالات المعاناة والعيش مع معظم الناس، فلا حاجة
للمعاجم ولا إلى أساتذة لفك رموز هذه الأحجيات، والتي ربما يختلف هؤلاء " أصحاب
الأستذة" فيما بينهم في ماهية هذه " القصيدة" يحد ذاتها!.
الشاعرة بلاغا ديمتروفا تكتب:
مقلق أن تكوني امرأة
تبنين الحياة من الحطام
عبء كبير أن تكوني امرأة
تحملين ف رحمك
تحوّلين القبلة الطويلة
الصامتة
إلى كركرة طفل
واللحظة الخاطفة إلى أبدية
لكي يستمر الوجود
أنا فخورة لأني خلقت امرأة...
ولولا انتشار هذه الموجبات الحداثية،
وانفراط فقاعاتها على شواطئ الرمال " الموجودة"، لما رسخ أصحاب الواقع الكتّاب على
اختلاف عقائدهم وانتماءاتهم المنتسبين إليها " الواقع" قدراتهم الكلامية على صفحات
الكتب في كل أنحاء الدنيا.
ويعتقد بأن ما قاله (شيللي) يعبّر عن
ما آلت إليه حال الشعراء الحداثيون من إفلاس بعد غموض:
إذا ما أتى الشتاء
أيتخلف عنه الربيع طويلاً؟
|
|||
WEBMASTER : AA-ALSAAD
|
This Web Site Programmed and
Written By ABD ALMASSIH JAMIL ALSAAD
..... Copyright 2003 (C) SCOPNET All
Rights Reserved
|
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق