الثلاثاء، 15 مارس 2016

مجلة السنونو ( العدد الحادي عشر ) - قصة قصيرة - الثوب العتيق ( بقلم : مرسيل الخوري طراقجي )

مجلة السنونو ( العدد الحادي عشر ) - قصة  قصيرة     
الثوب العتيق ( بقلم : مرسيل الخوري طراقجي )

الثوب العتيق
بقلم: مرسيل الخوري طراقجي
 
سليمان ، الشخصية القوية الهشة التي  ملأت ذهني وطغت على الكثيرِ من صوري ، يلاحقني ثانية ،لا من خلالِ صورةٍ تشبهه  على غلافِ مجلةٍ أجنبيةٍ أطلقت لنفسي العنانَ يوما" في أن أقبلها على أنها صورته فقد كان في نظري علما" يستحق أن  تحتل صورته غلافَ مجلةٍ، بل هو سليمان الحقيقي الذي يدأب على الظهورِ  في لحظاتِ تأملي وشرودي، في  أحلامي التي  يملؤها بحكايةٍ جديدةٍ يرويها لي و يصر  على  أن يكون فيها البطل َ بلا منازع. فيها يتصدر المواقفَ، يجد الحلولَ ، يبكي، يتألم، يصرخ بلا صوتٍ  ثم يتلاشى مع أولِ خيوطِ الفجرِ  التي تطل فتمحو صورته اللقمة والحركة والكثير من الهموم.
البارحة ليلا" دخلت إلى غرفته  كالمعتاد  بلا استئذانٍ في خفي حلم ٍ تشبثَ بي في الهزيعِ الأخيرِ من ليلٍ طويلٍ أويت فيه إلى الفراشِ باكرا". رأيته متكورا" فوق فراشٍ نظيفٍ يشبه قميصه النظيفَ الذي لا يقيه بردا" ولا يرد نسمة. كما اعتدت أن أراه على الدوام.  يده التي تدبج قصائد،  أسمعني بعضا" منها  فجعلتني أرى فيه متنبيا" جديدا "يغتال كل يوم ،ملوية تحت ثقلِ رأسه في علاقةٍ أبديةٍ ساميةٍ ، علاقةِ الفكرِ بالقلم.  يتمدد على السرير النظيف جسم ضئيل نحيل  يمده بقوتٍ  لابد منه حتى يتسنى لهذا الرأسِ التفكير وهذا القلم  الكلام.
سليمان وقد انحسر الغطاء عن بعضٍ كبيرٍ من جسدهِ يشغل زاويةً في غرفتهِ المتواضعة تفصلها عن الزوايا الأخرى التي يشغلها بقية أفراد الأسرة حواجز غير مرئية من احترامِ خصوصية الآخر.
 وقفت  أتأمله بصمتٍ  تلح في مخيلتي حادثة البارحة التي رواها لي وهو  يتكئ  إلى ابتسامةٍ عريضةٍ تشي بحزنٍ قديم يرفض الظهور ،ابتسامةٍ عهدتها دائمةَ الارتسامِ على شفتيهِ قال:
"البارحة قررت ألا أكون سليمان العتيق قررت أن أتنكرَ  لهذا المغفل الذي يعتقد أن جهوده  في الدراسةِ ودرجاته الممتازة ونتائجه المشرفة َكفيلة في أن تفتحَ أمامه آفاقَ الدنيا وهي الجواز الوحيد في رحلةِ العمرِ على طريق بدأتها يوم ركضت لاهثا إلى أمي زافا" إليها بشرى نجاحي في الثانويةِ العامة التي لم تكن سوى توقيعٍ في سلسلةٍ مشرفةٍ من الشهاداتِ  التي علقتها على جدرانٍ مطلية ٍ بالأبيضِ ومزخرفةٍ بعيون ساهرةٍ مقرحة.
أما الشهادة التي لاتحمل توقيعا" فهي ما حباني به الله من موهبةٍ  جعلت قلمي يتحرك على الورقةِ البيضاء ملتهما" السطورَ محولاً الأفكارَ والصور َكلماتٍ تزخر بكل ِما استطاعَ هذا القلب أن يعتملَ به من مشاعر.
كنت  عل ثقة أني سأكون أصغرَ معيدٍ في الجامعة وأن أبواب  َالمعرفة ستكون مشرعةً أمامي.
الإجازة الحلم في يدي و تفوقي  هو مفتاح البابِ الكبيرِ   البعيد ِالقريبِ فيما أسموه البعثة.
المفتاح بيدي اليمنى ، مفتاح حسدني عليه الكثيرون ، أعرف كل تعاريجه ، طوله ، وزنه ، لونه . أحبه، أخشاه أفخر به لكنه بحاجةٍ إلى   توقيع ٍيجيز لي استعماله.
   مضت على التفافي  بمئزرٍ اسمه الانتظار الساذج الملهوف  سنتان.  حذائي الجديد اهترأ وأنا  أتسلق سلالمَ الوزارات ِ  المعنية طارحا" سؤالي الأبدي …..
    متى؟ ولماذا؟
البارحة فقط أفقت حين هزتني كلمات صديقةٍ رويت لها حكايتي مع الحلمِ والمفتاح .
أفقت حين  نصحتني بخلعِ مئزرِ الانتظارِ ، محوِ الابتسامةِ ، تثبيتِ القدمين على الأرضِ، المواجهةِ ،
الإصرار ِوانتزاعِ الحقِ.
 نصحتني بالتخلي عن الثوب العتيق."
اعتدل سليمان في جلسته  وكأني به  يستجمع قواه لا لمتابعةِ  نضاله بل  لمواصلةِ القصة.
   "خلعت  البارحة الإنسانَ العتيقَ الخائفَ الذي كنته ." 
بهذا الحماس بدأ سليمان يقص علي مغامرةَ البارحة وبدأت أنا بمشروعِ ابتسامةٍ عريضة ٍتنقل تهنئتي الحارةَ  فالحماس الذي بدأ فيه بروايةِ  مغامرته كان يوحي بنهايةٍ طيبة.
تابع سليمان قائلا" :
"ارتديت الثوبَ الجديدَ  الجريء غيرَ الهيابِ، راجعت تعليماتِ صديقتي التفصيلية في كيفيةِ اللقاءِ والمواجهةِ والطرح.
 قررت أن  أسرع  معاملةَ  بعثتي التي اعتبرتها أمراً روتينيا لا يحتاج إلا إلى المتابعة.
اتجهت نحو الوزارة مراجعا بشأنِ البعثة ِالتي طالَ انتظارها وسبقني إليها الكثيرون .
صعدت الدرجاتِ السبعة بسرعةٍ فأنا أعرف عددها  ، متخطيا" الوسطى المحطمةَ فيها.
مشيت بثباتٍ في الرواقِ الطويلِ متعمدا" التجهم َطارحا" النظرةَ المتسائلة التي   اعتدتها.
توجهت إلى الغرفة الأخيرةِ ذاتِ الستائرِ الخضراء.
توقفت عند الباب  مستظهرا" كلمات ِصديقتي:
 " لاتطرق الباب".
ادخل دخولَ الواثقِ صاحبِ الحقِ، لا المراجع.
نفذت الأوامر َبدقةٍ، لم أدخل رأسي أولا مستفسرا"، باحثا" عن ابتسامةِ ترحيبٍ بل فتحت البابَ دفعةً واحدةً مدخلاً كاملَ جسدي في الغرفةِ الهادئةِ الخافتةِ الضوءِ   وهو ما أحلني في مرتبةٍ تعلو مرتبةَ المراجعين العاديين.
 اندفعت إلى الداخلِ بثقةٍ لأجدَ  نفسي  وسطَ  الغرفةِ ذاتِ الستائر ِالخضراء  ببرودتها المستحبةِ في قيظِ تموز    المرفوضة وأنا  بثوبي العتيق.
 لم تفلح عتمة المكان، برودته أو هدوؤه في انتزاع ِالثوبِ الجديدِ  وإحلال القديمِ وفي العودة إلى   امتشاق الابتسامةِ المعهودةِ التي ظننتها يوما" سيفا" مشرعا" انتزع به حقي.
طريقة الدخول، يا الهي كم هي هامة كما قالت صديقتي التي لاتتعسر لها معاملة ولا يرفض لها مطلب.
لقد أفلحَ دخولي دونَ الطرقِ على البابِ في انتزاعِ ابتسامةِ ترحيبٍ من  الموظفِ الدائمِ التجهم ِ الجالسِ وراء المكتبِ العريض.
سؤال حازم ، تجهم مفتعل كاد أن ينحسرَ ليظهرَ سليمان اللطيف لولا صوت صديقتي الذي علا مخفيا" أي ارتدادٍ نحو  الخوفِ العتيق .
" قم بتحيتهِ بثقةٍ ناقلاً له سلام َواحدٍ من أصدقائه القدامى لتزيلَ جبلَ الجليدِ بينكما".
هكذا فعلت لكن نقل التحية لم يفلح في إذابة كل الجليد بل أذاب ما يكفي لتوسيع الابتسامة والاستعداد للإصغاء.
 في السابق  كنت أقول " هل أستطيع مقابلة الوزير ؟ وفي هذه ال"هل " كانت مأساة الرفض أما الآن وبحسب تعليمات صديقتي قلت :
" أود مقابلة السيد الوزير"
الطرح، الطرح يا صديقي هو الأقوى ، هو الأجدى.
"أهلا وسهلا"…… جاءتني من بعيد مغلفة بورق هش من عدم التصديق ،
ورق يستعملونه في تغليف الحاجات الثمينة سريعة العطب. ثمينة هي هذه الكلمات.
جرس جانبي يدق ….. يحدثني إحساسي بأنني المعني به.
-         قهوة أم شاي؟
-         -شكرا" لاشيء يكفيني لطفكم.
لم أكد  أنهي العبارة الأخيرة حتى جاءتني صفعة من صديقتي التي أحست بتسرب الإنسان العتيق إلى حواري. كان الأجدى  لي أن أختار سريعا  القهوة أو الشاي دون تردد بتلقائية القوي الواثق  لا  الشكر بلطف  المذهول .
كان في ردي الأخير رائحة سليمان العتيق لكنه رد صادق فلطفه،  وهو ما لم أعتده،  أفضل من كل  كؤوس الشاي والقهوة في العالم.
تفضلت سريعا بالجلوس  دون استئذان بحسب تعليمات صديقتي الجريئة .
 استندت بظهري إلى المقعد الوثير بدلا" من الجلوس عند الحافة وركبتاي مضمومتان لحمل يدي المعقودتين فوقهما في انتظار طفولي وجل كما اعتدت أن افعل من قبل وأنا أرتدي ثوبي العتيق.
باعدت مابين الساقين في جلسة رجولية مسترخية واثقة انتظارا " للدخول إلى الغرفة الأخرى الأكثر هدوءا"  الأكثر برودة  ، الأكثر عتمة.
كان بمقدوري الوصول إلى حيث يجلس الوزير مغمض العينين فأنا أعرف تفاصيل المكان .
ست خطوات  إلى الأمام ثم استدارة جانبية قائمة إلى اليسار تضعني قبالة الوزير.
تساءلت في سري   بعد أن تحركت في مقعدي   محاولاً الاسترخاء ولملمةَ  الأنا الجديدة!!!
كيف أبدأ بالتحيةِ حين أدخل الغرفة  الأخرى  الأكثر َهدوءا"؟
صباح الخير….   عبارة حتمية لابد منها فالوقت صباح وهي الوحيدة المناسبة ولكنها جافة دون تتمة.
هل أقول صباح الخير سيادةَ الوزير  أم سعادةَ الوزير؟
 صوتصديقتي يرن معاتبا"….. أستبعد العبارتين .
سأتوجه إليه بالتحية…..   صباح الخير دكتور !!
حلَّ إشكال التحيةِ وبقي الدخول في القضية.
الطرح… الطرح …والسرعة في ذلك هما المدخل الناجح بحسب رأي صديقتي.
لن أبدأ بالتعريفِ بالقضيةِ مذكرا" بالبعثةِ  باستحقاقي وجدارتي  فأنا لست هنا للإقناعِ بل للتسريعِ في الإجراءاتِ فقط. سأقول ( شكرا" لنصيحة صديقتي العزيزة   الجريئة) :
_ دكتور…. الإجراءات بطيئة في إتمامِ بعثتي.
لا بأ س بهذا الطرح. هذا يعني أن المشكلةَ مشكلة تأخيرٍ ليس إلا،  أما الحق ، الأفضلية ، المؤهل والاستحقاق فكلها أمور لا نقاشَ فيها بحسبِ ثوبيَ الجديد.
أنا فقط أتأفف من الروتينِ القاتل.
تبا" للروتين  الذي  أحس به في صمتِ الغرفةِ  وحركةِ بابِ غرفِ الوزيرِ  وهو يفتح ويغلق ثم يفتح ويغلق  لافظا" أناسا"  يرتدون ثوبي العتيق.
لابد أن الوزيرَ سيبدأ بالسؤالِ عن مرادي فهو لا يتذكره  ولم يهمسْ له أحدهم من قبل باسمي.
أية بعثة يابني؟
-         حلوة هي كلمة (بني)  لكنها لم تكن دافئةً  قد تكون برودتها بسببِ  المكيف .
-     بعثة الأوائل إلى باريس لنيل الدكتوراه رقم 116ظ ع تاريخ 7/7   …… يكفيني أن أقفَ عند الشهرِ دون السنةِ  حتى لا  أتيحَ للوزيرِ معرفةَ عددِ السنين التي مرت  فيعتبرَ القضيةَ  مرفوضةً بحكمِ التقادم.
-     الموظف اللطيف صاحب السؤالِ عن رغبتي في الشاي أو القهوة يخرج من الغرفةِ الأكثر عتمةً التي رتعت فيها أحلامي، تأملاتي حواراتي ، إجاباتي وتمنياتي ليجلسَ إلى طاولته بحركةٍ سريعةٍ متحاشيا" النظرَ إلي ،
مؤشر لا يبعث على الطمأنينةِ  أو الأمل…… لكنه لم يتكلمْ ، لم يقلْ شيئا" وهذا أمر مشجع….  هذا يعني أن دخولي إلى الغرفةِ الأخرى ما زال ممكنا" ومحتملا" لا بل مؤكدا".
 جلبة أخرى أسمعها آتيةً من وراءِ الطاولةِ  يندفع إثرها صديقي اللطيف ليدخلَ إلى الغرفةِ الحلم ِثانيةً . يطول غيابه هذه المرة. صمت طويل ،  طويل تخلو خلاله رأسي من الأفكارِ ، يكفيني ما أجريته من حوارٍ  لم أخرجْ منه بنتيجة.
تتحرك أكرة البابِ لتتسمر عيناني عليها ، تدور فيتحرك الباب ليلفظَ مع تحركهِ مراجعا" اندفع  باسما"  نحو البابِ الآخر دون أن يحسَّ بالآخرين الذين ينتظرون ويحلمون.
 
هذا ما سأفعله أنا بعد مقابلةِ الوزير . أنا لن أرى أحدا" حتى الموظفَ اللطيفَ قد لا أراه في غمرةِ فرحي  ربما أنسى أن أودعه أو أشكره.
الباب يرتد ثانيةً ليبتلعَ وراءه الموظفَ اللطيف .  
زمن الانتظارِ طويل قصير   هاأنذا  أعود إلى حافةِ المقعد، ظهري المحني بعيد عنه ركبتاي متلاصقتان بعد انفراج .سليمان  العتيق يعود إلى الظهور
أنا على وشكِ الوقوع من على  الحافة
لم تفلحْ كلمات صديقتي  في تثبيتي في وضعِ  الواثق.   
يفتح الباب فجأةً ليظهرَ صديقي اللطيف متجهما" يلوك كلماتٍ يبصقها    أو هكذا تهيأ لي في وجهي.
 الوزير مشغول     لديه اجتماع 
لازمة السنين الغابرة.
شكرا"  صديقتي  شكراً على الثوبِ الجديد الذي أوصلني  إلى ابتسامةِ الموظفِ اللطيف
  وهنيئا" لي بثوبي العتيق .
 
 
 
WEBMASTER : AA-ALSAAD
This Web Site Programmed and Written By ABD ALMASSIH JAMIL ALSAAD ..... Copyright 2003 (C) SCOPNET  All Rights Reserved 

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق