الثلاثاء، 15 مارس 2016

مجلة السنونو ( العدد الحادي عشر ) - قصة قصيرة كان اسمه بردى ( بقلم : فهد بهجت الحوش )

مجلة السنونو ( العدد الحادي عشر ) - قصة  قصيرة     
كان اسمه بردى ( بقلم : فهد بهجت الحوش )

كان اسمه بردى
بقلم: فهد بهجت الحوش
دمشق...
والياسمين ينبض في دمي..  وأنا أنبض في سيارتي باتجاه النهر.
إنه بردى.. موطني الحقيقي.. سأرتمي فوق شاطئه، سأقبله طويلاً، وسأتقلب على العشب، فتدور بي الأرض، وتدور وتدور، وأستسلم لها مثل طفل صغير وجد أبويه.
دمشق.. ابنة الشمس المعمّدة بعرف الثوّار، الغالية أبداً في عيوننا، الطفلة المدللة، تسرّح شعرها مع الصباح وتغسل وجهها بماء بردى.
اليوم، سأستحمّ مع دمشق في نهرها المقدّس وسأغتسل من كل ذنوبي التي خزّنتها طوال سني غربتي في لندن.
انتهت أسطورة تشرّدي، وها أنا أعود كطائر السنونو لأوقظ أمسيات بردى الجميلة على ضوء القمر.
أنحدر باتجاه الربوة حيث كنا نلتقي صغاراً لنصنع حبالاً طويلة من أوراق الخريف الملوّنة ثم نرميها في النهر لترسم أشكالاً رائعة ما زلت أذكرها إلى الآن.
إحساسي بالطريق بدأ يهتز، أشعر بأنني أسقط في شوارع ضيقة ومتشابهة، وأنني أتوه من جديد في أول يوم لي في دمشق.
يبدو أنه عليّ أن أسأل إنساناً ما لأنقذ تشرّدي الجديد.
أهبط من السيارة، أستوقف رجلاً كهلاً وأسأله: كيف أصل إلى الربوة؟
-                                             أنت في الربوة.
-                                             والنهر... أين هو؟
-                                             أي نهر؟
-                                             بردى؟
-                                             إنك تقف فوقه.
أنظر أرضاً، أحس بضياعي من جديد وأنا أسير فوق النهر الذي تحجّر وتحجّرت كائناته واستحالت أشواكاً تقرّح قدميّ.
أعود إلى سيارتي، تغمرني حيرة مميتة، أحاول أن أستعيد أنفاسي، أغضي وأنا أرخي يديّ فوق المقود لأتابع بحثي المتواصل عن بردى.
*   *    *    *    *
كان بردى يفتح لنا ذراعيه كلما لجانا إليه، كان يرقص تحت أشعة الشمس سعيداً بحكايانا الصغيرة، وكنا نمتطي الرياح في لحظات الغروب ونلحق بالشمس لنوقفها ونمنعها من الهروب ليطول لعبنا على ضفاف النهر.
أصل إلى دمّر، أتمنّى أن أرى بردى.. أن أسمع صوته.. لن أغتسل بمائه، لن أعاتبه بشيء، سأكتفي فقط بالنظر إليه والتبرّك بهوائه..
أترك سيارتي، يخيّل إليّ أن الناس هنا ليبتلعوا النهر وهم في طريقهم لابتلاع كل ما هو جميل وأصيل. لا أشجار، لا ورود، لا نظافة.
اغتالوا كل الأشياء الحسنة ووضعوا بمكانها نفاياتهم.
عبثاً أستعيد ذكرى بردى.. عبثاً أصدق أنني حقاً كنت هنا.. كأنني أرى هذا المكان لأول مرّة، أتجوّل فيه دون أن ينبض في أعماقي وتر.
منذ عشرين عاماً. منذ أن تركْتُ دمشق توقف نبضي.. أكان من الضروري أن أغادر دمشق لأعي مدى حبي وارتباطي بها؟ وحين عدْتُ اكتشفت أنها فَقَدَتْ نسغها وجفّتْ شرايينها.
(كان يوماً حزيناً عندما غادرت دمشق... كانت السماء تبكي وجرحي الذي لم يندمل إلى الآن منذ أن طُرِدْتُ من النقابة. لكن جرحي الأقوى هو تخلّي أصدقائي عني في الوقت الذي كنت فيه بأمس الحاجة إلى رفيق يؤنس وحدتي القاتلة. حتى زوجتي تخلّت عني مدّعية أنها لا تستطيع أن تترك عملها وتلحق بي إلى بلاد قد تشكّل أخطاراً على مهنتها، فقد فضّلت العيش بين جرذانها وقواريرها على المغامرة معي. لكن بردى كان يبكي يومها بشدّة.. فقد كانت روافده تتسارع في جريانها كما لم أرها من قبل.. إنه الوحيد الذي حزن على فراقي.)
آهٍ بردى، أين ألاقيك؟
أعود إلى السيارة، أحس بان روافد بردى جميعها تنزف مع جرحي الكبير وأنني لن أرى الراحة حتى ألاقي نهري المنشود.
عشرون عاماً وأنا أبحث عن نهري البكر. في البدء لم يكن هناك ما يعنيني حقاً، ما يسلبني قوتي أو ما يمنحني الحياة؛ لكنني الآن أعترف بأن بردى هو الشريان الوحيد الذي تنهل منه شراييني، وأن دمشق لا يهنأ لها صباح حتى ترسم قبلتها الأولى على خد بردى وتشرب قهوتها على ضفافه الهادئة.
*    *    *    *    *
أصل إلى الهامة.. صرْتُ أشعر بالخوف والوحشة كلما مررتُ بمكان كان يجمعنا معاً بردى وأنا.. الخوف من أن أفقده إلى الأبد.
0كنا نتسكع كثيراً بين أشجار الحور التي كانت تشكّل لنا جداراً هندسياً رائعاً يقينا من حر الصيف؛ وكنا حين نسبح في الماء العذب ننسى أنفسنا لساعات، فيطول عناقنا مع النهر ويطول نهارنا، حتى الشمس كانت تتوقف عن مسيرها، فنغمز لها بأن تنزل إلينا، وكم كنا نراها في الماء تعلو وتهبط مثل كرة ذهبية نقذفها فيما بيننا فتنسى رحلتها هي أيضاً وتزوغ في ماء بردى إلى أن تفطن لنفسها فتعجّل في رحيلها مودّعة. وحين أعود إلى البيت كنت أسمع أبي يقول لأمي: ألا تلاحظين معي أن هذا النهار كان طويلاً؟
فتجيبه حاذقة: طبعاً، إنه شهر تموز.
فيقول ثانية: لا.. لا إن هذا النهار يختلف عن سابقه.
فترد عليه بطريقتها المحببة: "دخيل الله شو بتْضَلـَّـك مختلف".
وحين أحاول أن أشرح لهما السبب في طول النهار، كان والدي يقاطعني قائلاً:
-                                             اذهب أنت، لا تنقصنا فلسفتك أيها المحامي).
لقد تحولت حقاً إلى رجل يركض مسعوراً في الشوارع يبحث عن بكره المفقود.
أتيت إلى دمشق لأحيا من جديد، لكن يبدو أنني فقدت الحياة قبل وصولي إليها.
لو بقيت ههنا لما ضاع بردى.. وكنت حتماً سأحافظ عليه كما اعتدت أن أفعل في السابق.
سأبحث جيداً في أعماق ذاتي، فأنا أرى بردى ينبض في كل خطوة لي.
بردى...!
يا نهري الغالي... يا نهرنا... يا نهر النزف الغابر،، يا نهر أوجاعنا وأحلامنا.. إني أرى فيك أنهارنا الداخلية التي جفّت لأننا أهملناها وركضنا خلف أنهار كنا نعتفد أنها ستروي عطشنا الزائف.
أتوه من جديد.
أحتضن صراخي وأبلعه حتى لا يسمعني أحد. لكنني رأيت جميع المارّة ينظرون إليّ واجمين وكأنّهم أمام مشهد لجثة مزّقها الانفجار. أتحوّل إلى شريان مفطوع ينزف على ضفاف نهر كان اسمه بردى.
 
 
 
WEBMASTER : AA-ALSAAD
This Web Site Programmed and Written By ABD ALMASSIH JAMIL ALSAAD ..... Copyright 2003 (C) SCOPNET  All Rights Reserved 

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق