الخميس، 29 أكتوبر 2015

مجلة السنونو ( العدد الأول ) - أبحاث مهجرية Essais de l'émigration الوطن الغائب - الحاضر

مجلة السنونو ( العدد الأول ) - أبحاث مهجرية Essais de l'émigration
الوطن الغائب - الحاضر ( المغترب اللبناني الأول : أنطونيوس البشعلاني ) الدكتور: فيليب حتي

* قصة كفاح عصامية العربي وطموحه في سبيل الحرية والعلم والنجاح مقرونة بالأخلاق

·   سيرة حياة اللبناني الغائب ـ الحاضر … أمس واليوم وغداً … تجسدها حياة أنطونيوس البشعلاني

 * بين صليما وبيروت تعريب المؤرخ الدكتور فيليب حتي
 من هو هذا الفتى الذي ظهرَ في سماء المهاجر الشرقية كنجم ساطع أو كشهب ثاقب ما لبث أن لمع حتى اختفى؟ من هو هذا الشاب الذي قضى بين الأميركان عامين غير كاملين فأحرز ثقتهم واصبح موضوع اعتبارهم وإعجابهم . بحيث شيدوا له ضريحاً وكتبوا فيه كتاباً ؟ من هو هذا الرائد الذي اكتشف أميركا ووطئت أرضها قدماه قبل أن درى جمهور اللبنانيين بوجودها ؟ ما اصله؟ وفصله وكيف نشأ وتربى؟
  بين أحراج الصنوبر في أعالي المتن من لبنان بلدة صغيرة تدعى صليما. في هذه البلدة عاشت عائلة حرفتها تربية شجرة الزيتون والعنب . في الثاني والعشرين من شهر آب لعام 1827 رزقت العائلة طفلاً نشأ كسائر أبناء القرية في الفلا وتحت الأشجار . وعلى ضفاف الساقية وبين الصخور. ذلك هو أنطونيوس البشعلاني . وسط هذا المحيط الطبيعي الفخم تفتحت طيات دماغ أنطونيوس . من صخور لبنان استمد الحدث صلابته واستقلاله الفكري. ومن نسيمه اكتسب رقة المشاعر ولطف المعشر . وتشبهاً بزهوره العطرة فاح أريج صفاته. وهناك لأول مرة أحس بوجود قوة إلهية وراء الكون وفوق الكون تدير الكون . وكان ذلك الإحساس يقوى فيه بتكرار الأيام إلى أن تمكن منه بكليته وجعله آلة بيد محرك الوجود ومهندسه الأعظم .
 لم يكن صبا أنطونيوس صافياً خالياً من السحب السوداء كما هي الحال أيام الصيف في سماء لبنان التي ترعرع تحتها ، الفتن عام 1837 كان من نتائجها احتراق بيت والده وتدمير كرومه التي اعتاش والعائلة منها. ففرّوا جميعاً إلى أوّل مكان آمن حملتهم إليه أقدامهم إلى قرية في جوار بيروت،آسفين على مروج خضراء وينابيع رائعة ورياض كانوا فيها يمرحون ويسرحون .
 ولم تكن تلك الحادثة خاتمة أحزانهم . على اثر الفرار توفّي الوالد في صليما في 5 آب سنة 1839 وقام ابنه الأكبر مقامه بتحمل مسؤولية العائلة . فتوجه إلى بيروت حيث توفق بالاستخدام عند قنصل إيطاليا . أحرز انطونيوس ثقة القنصل ورافقه لأزمير ولجزر عديدة في البحر المتوسط ..
 استمر أنطونيوس في خدمة القنصل حتى إذا انتهى عام 1850 وطد العزم على مباشرة مهنة الترجمة للسياح الذين كانوا يؤمون الديار المقدسة . وكانت وظيفة الترجمان عبارة عن تهيئة وسائل النقل للزوار الأميركيين والأوروبيين وإمدادهم بالمأكولات والخيام وهدايتهم إلى اسهل الطرق وأأمنها مدة تجوالهم في لبنان سورية وفلسطين . وكانت بعض سفرات أنطونيوس تتناول الاسكندرية ووادي النيل .

*… إلى أميركا

 احتكاك أنطونيوس مع السياح الإنكليز والأميركان وأكثرهم من الطبقة المثرية المهذبة وسع أفق بصيرته وشدد فيه الميل لاكتساب المعرفة ولزيارة بلاد المغرب . وجعل له بينهم أصحاباً كان لهم على تكييف مستقبله تأثير كبير ومن جملة هؤلاء الأصحاب رجل من ذوات نيويورك تحدث عن أنطونيوس قال :
أول مقابلة مع أنطونيوس كانت في صباح بديع من أيام تشرين الثاني سنة 1852 وذلك في دار لوكندتنا في بيروت حيث كان يبيع كتاب ترجمه من العربية إلى الإنكليزية . كنا يومئذ على أهبة السفر إلى مصر وكان أنطونيوس من المستخدمين عند ترجماننا. حالما تسنت لي معرفته واختباره أيقنت انه يمتاز عن غيره بشهامته ونشاطه وبسلامة طبعه وذكائه وبعدم احتفائه بالكسب والدينار . أما تفانيه في سبيل الواجب فكان بينا واضحاً في كل ما يعمله . لم يكن أنطونيوس في ذلك الحين يحسن الإنكليزية بل الإيطالية التي لم نفهمها . على انه كان يتكلم لغة يفهمها الجميع ، هي لغة المحبة، لغة القلوب .
وأني لم أزل اسمع صوت ضحكه وقهقهته يرن في أذني واشخص رقصته الشرقية في حلقة من المتفرجين هو مركزها ولم اذكر أني رأيته أبداً غضبان . وكان أنطونيوس يختلف عن غيره بأنفته واستنكافه عن طلب (البخشيش) وغاية ما كان يطلبه كتاب توصية .
 حلم أنطونيوس بالعالم الجديد وراء البحار ونفسه الحرة الأبية تاقت للتملص من قيود القديم والتخلص من تقاليده فحول مقتنياته إلى نقود بلغت قيمتها نحواً من ثلاثمئة ريال وحظي بمقابلة إخوته للمرة الأخيرة ، أما والدته فضنت عليه بكلمة الوداع ، واقلع من بيروت في شهر آب سنة 1854 وإذ كان المركب يسير بازاء الشاطيء اللبناني كان فتانا ينظر بعيون ملؤها الدموع إلى الأكام المجللة بأثواب الصنوبر والزيتون حيث قضى ماضيه . والى القرية التي دفن فيها أباه ميتاً وأمه حية . والى المدينة التي استنزف فيها عرق جبينه دون تحصيل رزقه . أبحر على رجاء العودة لخدمة البلاد بلاده وأبنائها واخوانه . ولم يدر ما كنزته له الأيام في مستودعاتها .
 نزل في مدينة بوسطن في شهر تشرين الأول سنة 1854 وكان من أمره في الولايات المتحدة ما كان . لم تطل إقامة أنطونيوس في أميركا فأقلع في بحر اكبر من المحيط . إلى عالم أوسع من العالم الجديد . وألقى عصا الترحال على الجانب الآخر من الأبدية . بعد أن دون اسمه في قلوب العديدين من أصحابه . وطبع صورة أخلاقه في صدورهم . وخلد ذكره في صحفهم لطيفاً ، وكان شجاعاً وكان متقداً بالغيرة على نفع مواطنيه .
 وإن صح أن الحياة تقاس بعرضها لا بطولها ، فيكون وهو ابن التاسع والعشرين ربيعاً ، قد عمر اكثر من الآلاف من أبناء جيله الذين عاشوا للستين والسبعين . وجمعوا ما جمعوه من المقتنيات والأموال . أما اليوم فليس من يدري باسمهم أو يحفل بذكرهم . فكأنهم لا عاشوا ولا ماتوا . حقاً ان معظم الناس يزول ذكرهم بزوالهم أما ذكر أنطونيوس الصديق فإلى دور ودور .
 * بالزي الشرقي في أسواق نيويورك
في عصارى أحد أيام تشرين الأول من سنة 1845 بينما كان تاجر أميركي في نيويورك مكباً على عمله في مكتبه فتح الباب وإذا بشاب بالطربوش المغربي " والكبران " داخل يتهلّل . ذهل التاجر وتفرسه فعرف فيه ذلك الفتى اللبناني الذي رافقه في سياحته في الأرض المقدّسة بصفة ترجمان ، وما لبث أن هتف له ورحّب به . ولنسمح الآن للتاجر أن يتكلم بنفسه ويقصّ علينا حديثه :
 سألته فأجابني انه نزل إلى البر في بوسطن من حيث أتى إلى نيويورك على قارب ضخم اعجب بفخامته وإتقان فرشه .
 وزادني انه لما برح لبنان حسب أميركا في طرف المعمور ولكنّه تيقن أن أصدقاءه من السيّاح الأميركان الذين خدمهم في لبنان وسوريا وفلسطين سيحسنون وفادته ويعملون على نجاحه وإسعاده بناءً على ما عهده فيهم من السجايا الحميدة .
 وبعد أن جدّد أنطونيوس علائق الوداد مع أصحابه ولقي منهم كل حفاوة وتكريم عمد إلى درس الإنكليزية وتلقن القواعد فاستخدم في بيت أحد الأغنياء على "الففث افنيو". وكم كان عجبه عندما مرض فقامت سيدة البيت نفسها على خدمته وتمريضه ، الأمر الذي أثّر فيه تأثيراً لم ينسه أنطونيوس مدى حياته . وطالما أشار إليه في أحاديثه والى امتنانه من تلك السيدة ، وتمرمر لعجزه بالإنكليزية عن تبيان شعوره وإيفاء واجب شكره .
 ومما استلفت انتباهي من أمر هذا الشاب انه برغم كونه ولد في قرية صغيرة من لبنان ونشأ في محيط اجتماعي متواضع كان يتنقل في بيوت الأسر الأميركية ذات الثروة والنفوذ دون تلبّك أو استغراب فكأنه في بيت أبيه. وكان وجهاؤنا يتسابقون لدعوته لضيافتهم مما يثبت قول شاعرنا بوب Pope :
 " إنّما الشرف والشهرة ليسا في المولد والمنصب بل في القيام على العمل الحسن الواجب لمـن عرفـه"
فتحت أمامه أبواب القلوب قبل أبواب البيوت . رقة خلاّبة ، وبصيرة نيّرة ، ومحاسن فطريّة ، وهمّة لا تعرف الملل والكلل رفعت هذا الخادم اللبناني المتواضع وأنزلته منزلة المساوى لمخدومه .
 شغف أنطونيوس بالدرس والعلم واخذ يظهر بمظهر شديد في أوائل عام 1855. عكف الشاب على تحصيل المعرفة بنفسه واستعان ببعض أصدقائه ، وعلى ما أذكر تردد إلى إحدى المدارس العمومية . وكان الكتاب المقدس وقاموس "وبستر" رفيقيه الملازمين . على انه لم يسع لتحصيل العلوم لنفسه بل لخدمة غيره ولمنفعة أبناء وطنه .
 ولم تطل المدّة حتى انفصل أنطونيوس عن بيت مستخدمه وشرع بتدريس العربية لمن طلبها مما مكنّه من تحصيل معاشه واستئجار معلّم أميركي خاص يلقنه قواعد اللغة والإنشاء. جهاده في هذا كان مدعاة لشفقة الكثيرين من أصحابه وإعجاب الجميع . النور في غرفته لم يكن لينطفىء قبل منتصف الليل أما حماسته فكانت أبداً متقدة .
وكما تذوب الشمعة تحت تأثير الحرارة والنور هكذا كان جسم فتى لبنان يسيل بداعي الكد والجد تحت سماء العالم الجديد . وربما كان مناخ أميركا القاسي الذي لم يألفه قبلاً من جملة العوامل التي دكّت بنيانه الجسدي فابتلى صاحبنا برشح شنيع رافقه سعال قوي لم يكن له سبيل للتملّص منه.
 وما كان صيف سنة 1855 حتى أخذه صديقه المسترهـ .ر. برفقته إلى  رتشفيلد سبرنكس Richfield Springs المصيف المعروف بجودة هوائه وحسن موقعه . فأحكم أنطونيوس عرى الصداقة مع عدد من الطبقة الراقية المتنورة من المصطافين . ورافق الأحداث منهم مراراً بقصد شمّ الهواء والتنزه . أما حنينه إلى بلاده وأهله فكان على أشدّه لأن منظر الآكام والأشجار في رتشفيلد كان أبداً يعيد إليه ذكرى لبنانه.
 * في المدرسة
في خريف عام 1855 نال أنطونيوس ما تمنى ووجد الضالة المنشودة بدخوله المدرسة. سروره بتحقيق رغائبه العلمية أمر يسهل تصوره ويصعب وصفه. ولدى وصوله إلى مدرسة أمينيا سمنري Seminary Amenia  في مقاطعة دتش Dutchess Country من أعمال ولاية نيويورك وجد كل شيء على ما يرام وأمل أن جودة المناخ تشفيه من سعاله على ما يستفاد من تحرير لصديقه المستر ايتش.
 أكب أنطونيوس بكل ما أعطى من المواهب على عمله . وسار في دروسه سيراً أذهل معلميه ورفاقه . أما منظره وهو يجهد قواه برغم تخافت صوته وتواصل سعاله فكان أمراً مؤلماً . وهاك ما كتبه بشأنه رئيس مدرسته المستر أندرو جاي هنت Andrew J. Hunt  :
 " عندما اتصل بي في خريف 1855 ان تلميذاً شرقياً مقبل للمدرسة خشيت انه يعرض نفسه لسخرية الطائشين من التلامذة بداعي عوائده الشرقية المخالفة للمصطلح عليه عندنا .
فجمعت التلامذة للحال وقصصت عليهم نتفاً من سيرة حياته تلافياً لما كنت أتوقعه من إساءة المعاملة إليه. بيد أن أنطونيوس ما عتم أن دخل المدرسة حتى اصبح بطلها. كان الطلاب ينافس الواحد منهم الآخر في إرضائه والتقرّب إليه . وما ذلك إلا لكون الشاب مجمّلاً بلطف المعشر وبساطة النيّة وممتازاً بعذوبة الحديث والفكاهة حتى أن اشرس التلامذة خلقاً لم يكن ليتمالك عن الشعور بالانجذاب إليه.
  عدم تمكنه من اللغة صعب عليه فهم الدروس ولكن همته ذلّلت معظم المصاعب ونفسه سوّلت له تتميم عشرة أضعاف ما يتممه غيره من الطلبة لو لا أني حاولت كبح جماحها بالنصح والإرشاد. كل عناء كان في نظره قليلاً زهيداً لدى فكرة الاستعداد لخدمة لبنان والشرقيين . ولم يكن انحطاط صحته وشعوره بقرب الأجل إلا ليزيده تشبّثاً بالدرس ورغبة بالعمل ، وما هي إلا اشهر قصيرة حتى نهكت قواه واصفر لونه وتملكَ منه السعال ، إنما حدّة ذهنه بقيت على مضائها " ..
 امتاز أنطونيوس بين رفاقه بتاريخ حياته الذي هو أشبه برواية منه بتاريخ ، وعرف بينهم بظمأ للعاوم ، وببساطة تصرّفه ، وعذوبة طبعه ، فضلاً عن تديّنه الحار وتوكله الدائم على الله .
ما عملته في سبيل هذا الشاب قليل لا يذكر ولكنه هو أصر على معاملتي باحترام شرقي وإكرام مستفيض فكأنه جهل أني من حيث الروح لا يصح لي ان اجلس عند قدميه .
 رجع أنطونيوس لنيويورك في نهاية الفصل المدرسي الأول ولم ير من باب الحكمة الرجوع للمدرسة مدّة فصل الشتاء.
فعاد لتدريس العربية ودرس الإنكليزية على يد معلمين خصوصيين . وسلّم نفسـه للدكتور لنزلي Dr. Lindsly يعالجه . فوصف له الدكتور زيت السمك فيما وصف ولم يبخل عليه بما حواه من المعرفة لإنقاذه ، ويؤخذ من الرسائل التي كتبها أنطونيوس في هذه الأثناء انه كان عرضة للصرع والعرق الليلي .
وفي مكتوب منه لرئيس مدرسته المستر هنت إشارة إلى انه كان ساكناً في غرفة تحت رقم 260 من الأفنيو السادس ، ومما جاء في المكتوب قوله : " وان شئتم السؤال عن تقدّمي إلى العافية فهو أشبه بسير الزحافات " .
وكان أنطونيوس يتردد على يونيون سكواير Union Square ( في السوق الرابع عشر ) للنزهة والترويح عن النفس ، فتعرّف بفريق من العملة الطليان وكان يجيد الكلام بلغتهم فأنشأ لهم جمعية واستأجروا غرفة جعلوها منتدى لهم وقاعة لدرسهم وأبحاثهم .
 راح الشتاء وجاء ربيع عام 1856 فانتعش ميت الرجاء في صدر أنطونيوس وتجددت فيه حياة الأمل بتجديد مظاهر الحياة في الزهور والطيور. فعاد لأمينيا في شهر نيسان وقلبه يخفق طرباً وبهجة . وزينت له مخيلته إمكانية تتميم دروسه وتصور نفسه حائزاً مجمل أسباب السعادة  عاملاً على إسعاد أهله وذويه عن طريق التهذيب والإفادة . ويستفاد من رسالة إلى صديقه الحميم المستر جاي سي ايتش بتاريخ 19 نيسان انه كان يدرس الإنكليزية واليونانية واللاتينية . إنما الميكروب الخبيث في رئته لم يكن ليحفل بتلك الآمال وهذه الدروس فأصر على عمله كما أصر أنطونيوس على درسه .
 والتفّ حول أنطونيوس رهط من المحبّين والمعجبين كان له فيهم خير تعزية وسلوى في وحشته ومصابه . ووجد في المسز ايتش والدة رؤوفاً تعطف عليه عطفها على بنيها .
ولم يذكر لي إلا مرة واحدة انه استاء من أميركي عرفه في الشرق واعتبره باللباس الشرقي في نيويورك ثم تغاضى عنه بعد أن تزيا باللباس الإفرنجي .
          خجل دون جبن ولا تأنث ، مجاملة بلا رياء أو تكلف ، تواضع عن غير مسكنة ، طرب بلا خفة ، ذكاء دون تكبّر ، ذلك هو أنطونيوس البشعلاني وتلك المزايا التي حببته ومراسلاتهم . فاثبت للملأ أن في صرف الحياة ونحوها الفعل الوحيد الذي يستحق التصريف هو فعل "العطاء" لا فعل الأخذ ولا فعل الجمع ولا فعل التحصيل فكان أنطونيوس شهماً وكان مقداماً .
 * نبذة مما كتبه انطونيوس بتاريخ 3 ايار سنة 1856:
" يا والدة الغريب :
الواجب يقضي عليّ أن اكتب لأفيدك عما حلّ بي منذ غادرت مدينة نيويورك . أنّ الله شاءت إرادته أن ينتابني بضعف لا سبيل لي لاحتماله مع صرامة الطقس حتى أني صرت بحيث لا أستطيع المشي ميلاً واحداً. وعندما أفكر بما أصابني من البلايا في هذه البلاد لا أجد من تعزية سيدتي سوى ترداد ذكرى حنوك علي . وإذا أمرت لساني بالسكوت أجاب : " الجبال تزول والتلال تنحل قبل أن ينفك عني التغني بألطاف هذه المحسنة" . قيل أن الكتابة نصف المشاهدة فلا تضني علي بها وسأشكر لك فضلك ما حييت ، حتى وبعد الموت تثني عليك عظامي في قبرها إاذاً ان موتي قريب وآلامي على تزايد ولا من دواء لدائي" .
 *          *          *
آخر رسائل الوداع من أميركا
إلى أهله في صليما
     إلى صليما ، لبنان
     يصل ليد حنا أو سعدالله أو إبراهيم يوسف البشعلاني أطال المولى بقاءهم .
     ليس لدي من المال ما أورثكم إياه . كلما انتجته يداي أنفقته على الأطباء وفي تحصيل العلوم . أما كتبي البالغة قيمتها ألفي قرش فباللغة الإنكليزية وقد أوصيت بها لأصدقاء لي من الأميركان .
     قال الشاعر :
     " رجل الخوف يبدو من وراء خبائه
      والقلب ذاب من المتاعب
      والعين تبكي للفراق عن الأحبة
      لا أحد قربي في بعادي
      ولا من يؤانسني في عالم الكد والجلبة .
إلى اخوتي المحترمين حنا سعد الله وإبراهيم غب أهدائكم تحياتي القلبية والسؤال عن غالي سلامتكم عساكم بأحسن عافية وتوفيق . وان جزتم بالسؤال عن حالة أخيكم فهو بتاريخه على أسوأ حال تحت رحمة الله .
وبيانه أني في نيسان سنة 1855 رشحت رشحاً عنيفاً والأطباء هنا رفضوا أن يفصدوني لأنهم لا يعالجون بالفصد في هذه البلاد .
ثم تجددت علي النزلة ورافقتها قحة شديدة فعمدت إلى الأدوية التي وصفها لي الأطباء إلى أن انفقت عليها ثمانمائة قرش وبرغم ذلك فلم الازم الفراش بل واظبت على دروسي دون انقطاع .
وفي شهر حزيران من سنة 1856 أعاد علي الرشح كرته فأيقنت أني لم اعد من أبناء هذه الدنيا وعليه كتبت لكم هذه الأسطر وسأتركها تحت عناية أحد الأصحاب حتى إذا انتهى الأجل يقدمها لكم .
ولما كان الموت نهاية كل مخلوق فإني ارقد على رجاء القيامة والاجتماع بكم في حالة البر والطهر عن يمين الديان الجالس على عرش المجد في عالم الخلود .
اكتب ذلك كي تعلموا أن ما حل بي لم يكن عن إهمال أو عدم اعتناء فإني عوملت احسن معاملة . كلا ، و لا تحسبوا ـ أشقائي ـ أني أموت كئيباً لأني والحق يقال سعيد بالانفصال عن هذا العالم الفاني . ولقد شبعت عيناي منه . نعم لم يبق لي من رغبة في هذه الدنيا فإني اكتفيت منها.  ولكم من يوم هنيء قضيته هنا مع أخواني . حتى ولا سليمان في كل مجده لم يكن بأهنأ عيشاً مني . وعليه فإني ذاهب سعيداً لملاقاة خالقي وربي .
وأختم الآن ببثكم أشواقي . للمرة الأخيرة أخواني أقول السلام لكم . لا تندبوني بل افرحوا معي واطمئنوا بالاً .
وأما أنت يا شقيق الروح إبراهيم فقبل عني يدي سيدتي الوالدة . اعتن بها وبأمر الأخ داود، والله أسأل أن يسهّل لك سبل الحياة وينجحك في أعمالك ويكون معك في كل أحوالك . وأرجوكم إخوتي أن تهدوا لجميع الأقارب والأصحاب سلام مودّع لهذا العالم الفاني . والرب الإله يحفظكم من كل شرّ ويطيل أيامكم .
كتبت هذا التحرير وأنا قادر على الكتابة وأغفلت التاريخ لأني لا أعلم متى الفظ النفس الأخير.
   أخوكم
   أنطونيوس
   ابن يوسف بن ظاهر البشعلاني
   من صليما جبل لبنان
   إلى المستر جاي . سي . ايتش
   طيّه التحرير المرجو إرساله بعد وفاتي ودفني إلى أهلي .
لا يجوز إرساله قبل ذلك لأن فيه شرح مرضي وهو آخر كتاب يصلهم مني قدمه من فضل المستر جورج سي . هرتر Hurter    في بيروت وسلفاً اقبل الشكر من المخلص .
أنطونيوس
 
 
WEBMASTER : AA-ALSAAD
This Web Site Programmed and Written By ABD ALMASSIH JAMIL ALSAAD ..... Copyright 2003 (C) SCOPNET  All Rights Reserved  

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق