مجلة السنونو (
العدد التاسع ) -
خاطرة
|
|
يا الله (
بقلم: كامل دعدوش )
|
|
يـــــــا اللّــــه
بقلم:
كامل دعدوش
أيُّ شعورٍ
ذلك الذي يملأ أعماقنا ونحن ندخل إلى عالم الجمال وأيُّ دنيا موحشة تلك التي نعيشها
لولا ذلك العالم؟ عَمِيَت عينٌ لا ترى الجمال.. ولا تحسُّ به. ومات قلبٌ لا يراك
ينبوع كلِّ جمال.. يا الله.
أنتَ
المصوّر لكلِّ جميل.. أنتَ واهبُ المحبة والنشوة في قلوب عبيدك لكلِّ جميل! هي ذي
الشمس تعرض علينا كلَّ يوم لوحتين فائقتي الجمال مختلفتي الإيحاء: لوحة الفجر
الطالع الوليد, ولوحة الغروب الذابلة.
وهذه
الجبال التي لا تنطق بل تترك في أعماقنا المهابة والجلال والعظمة. وهذا البحر.. هذا
العالم الذي يحتوي في أعماقه على عوالم.. لكم جعل خيالنا يعجز عن تصوره..!
ولكم
تطامنت أمواجه حتى مخرناه في كلِّ اتجاه وما أردنا مفارقته, ولكم في أوقاتٍ أخرى
أيأسَنا منه, وفرض علينا سطوته وجبروته, وملأَنا رعباً ونفوراً حتى من رؤيته!
والمروج
الخضر تتماوج فيها الزروعُ والأزهار, وتلاعبها النسماتُ الهائمات في الصباح وفي
المساء.. أليس في منظرها ما يحبب بالحياة.. ما يخفف من أعبائها.. ما يحمل ألسنتنا
على التسبيح لكَ يا الله..!
وعالمُ
الأزهار والورود والرياحين.. وما أدراك ما هذا العالم؟ هل تنكر منه شيئاً؟ ألا تجد
في أحقرها ما يحيِّر العقول.. حتى أزهارُ الأشواك نفسها أليست في أشكالها غريبة..
وفي ألوانها كذلك؟ ثم المعاني التي تقع عليها في أنواع الأزهار, والإيحاءات التي
تبعثها روائحها العطرة..!
تعال معي
انظر إلى الياسمين الأبيض أليس رمزاً للبراءة, ورائحته أليست رمزاً للعفة؟
والأكاسيا أليس في منظرها ما يبعث على الأمل وفي عبقها ما يوقظ كوامن الحب؟
والقُرنفلُ, أطال الله من عمره, أليس في أريجه غموض لا نقدر على استجلائه؟ وسبحان
الله!
أنسيتَ
العصافيرَ والبلابل والطيور؟ عالمٌ آخر متميز لا تحبه, بل تعشقه, حتى لو سألنا
إنساناً أن يختار حياة ً غير حياته لما خطر في باله إلا أن يكون طيراً يغرد, ويضرب
بجناحيه الهواء, ويعلو في زرقة السماء. والفراشات, تلك الطائرات الصغيرة التي لا
تسمع هدير محركاتها. تلك الأرواح النقية.. ألا تحب أن تقبّل أجنحتها المخملية ونقوش
ألوانها الفاتنة؟
والغزلان... هل سعدت بمرأى رفوفها وهي تهيم في الصحراء؟ هل أرغمتَ غزالاً على العيش
في حديقتك وراقبت حركاته وتصرفاته؟ هذا الكائن المتميز بالنفار... الذي ينفر من كل
شيء ولا يرتاح إلى شيء!! والحصان جماله فريد, وإحساسنا بجماله يختلف عن إحساسنا
بجمال العصفور والغزال. إنه جمال الشهامة والترفع والاعتزاز! والجمل.. وإن أهملناه,
في أيامنا, وإن ضؤل نصيبه من الجمال الحسي, فإن في صفاته من الجمال المعنوي ما يعلو
على أيِّ جمال حسي. أنتَ, هنا, مع الصبر والعفة والمروءة, وهذه, أتراها غابت مع
غياب المعلم؟ عجيبة صفاته هذا الحيوان القوي الضعيف, المتسامح العنيد! والأسماك
بأشكالها الغريبة, وألوانها وخطوط هندستها, وكل مخلوقات البحار والأنهار من الحيتان
والتماسيح.. عالمٌ أخر ما أجمله.. ما أروعه..!
أما
الإنسان.. فإذا تأملناه بعين الرضا, فهو قمة الجمال, ويجتمع عنده كلُّ ألوانه, وإن
توزَّعت بنسبٍ متفاوتة بحيث تعطي في النهاية تعدداً في الشخصيات يحيّر الألباب!
على أنه
إذا اجتمعت في الإنسان كلُّ ألوان الجمال التي نراها ماثلة في الكائنات الأخرى..
إلاَّ أنه وحده يمتاز بوعي جماله وجمال غيره.
الإحساس
بالجمال نعمةٌ عظيمة تحبب إلينا الحياة, وتعيننا على تحمل مصائبها وشرورها.. إنه
كرمٌ إلهي لبني الإنسان كافة, للمؤمن والكافر, للخيِّر والشرّير, إنَّه جزءٌ من
حياتنا الدنيا لا ينفصل عنها إلاّ حينما تختلّ موازيننا فنُحشَر عندئذٍ في زمرة
الشواذ.
والبشرية
منذ القديم أدركت قيمة الجمال فجعلته من المثل العليا الخالدة.. مع الخير والحق
والعدل.
نعم.. وكيف
لا يتعانق الجمال مع تلك القيم الرفيعة وبينه وبينها من الوشائج والصلات, ما يحملنا
على التوحيد بينها.
هل تتصور
إنساناً يستميت في سبيل حقه وحق غيره لا يكون عنده إحساس دقيق بالجمال, ثم لا تكون
نفسه بالتالي راضية بالخير, ساعية إليه؟ وحينما أقول: إن الجمال, والإحساس به,
كرمٌ, فضلٌ إلهي, فلأنه ليس ضرورة تستلزمها حياتنا ككائنات حية.
لقد كان
يمكن للحياة البشرية أن تستمر دون أن تكون الأزهار على تلك الدرجة من الحسن المدهش,
ودون أن تكون الفراشات ملونة مزركشة, ودون أن يكون الشروق والغروب على ما هما عليه
من روعة. ولنا أن نعمم ذلك الإمكان على الكائنات الأخرى, الحيوانية والنباتية. بل
لعلنا لا نتجاوز حدود العلم عندما ننكر إحساسها بالجمال, كوعي, وإذا كان ثمة ما ينم
عن ذلك فهو إحساس بيولوجي محض.
إذن..
الإحساس بالجمال ليس ضرورة بل هو امتياز إنساني ولكن.. لماذا؟.. لأن الله أراد أن
يميز ابن آدم من باقي المخلوقات, أن يكرمه, أن يشعره أن كل ما حوله مسخّر له ومن
أجله. لينجذب إلى الحياة الدنيا, ولا ينفر منها, ومن ثم تكون له الدُّربةُ والمران
على رؤية الجمال, فيتهذَّب حسّه, ويرق وجدانه حتى يعبر من الجمال الحسّي إلى الجمال
المعنوي, وليتطلع, دائماً, إلى جمال أكمل, مطلق, ليس عالم الأرض مكانه بل في مكان
آخر وزمانٍ آخر.
إن الأديان
السماوية كلّها قد وعدتنا بهذا العالم الآخر وأشارت إليه إشاراتٍ مستعملةً كلماتنا
البشرية ولكن هنالك, ما لا عين رأت ولا مرَّ على قلب بشر.
وفي تقديري
أنه لولا الدربةُ على الإحساس بالجمال في الدنيا لكان يصعب على الطبيعة البشرية أن
تحتمل رؤية الجمال الأخروي. لأننا, ونحن في الدنيا, نكاد أحياناً نُبهَر, نُصعَقُ
من الجمال, فكيف يكون حالنا إذا أكرمنا الله برؤيته ((وجوه يومئذ ناضرة, إلى ربها
ناظرة)) "1". وخاطبنا, كما خاطبنا, في موقف ما: ((ألستُ بربكم؟)). وكيف تكون حسرة
الكفّار عندما يحجبون عن الرؤية... عن الجنة وما فيها: ((كلا إنهم عن ربهم يومئذ
لمحجوبون)) "2", بعد أن كان لهم سبق ذوق, وإحساس بالجمال؟ ألا إنَّه لعذابٌ شديدٌ
أليم.
اللّهم
نجّنا من هذا العذاب, ولا تجعلنا من المحجوبين في الدنيا والآخرة, وأكرمنا بما نحن
له مستحقون, فأنفاسُ مصيرنا معلقة بكرم مغفرتك ورحمتك.
ويا الله.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
"1" الآية 22/23 من سورة القيامة.
"2" الآية 15 من سورة المطففين.
|
|
WEBMASTER : AA-ALSAAD
|
This Web Site Programmed and
Written By ABD ALMASSIH JAMIL ALSAAD
..... Copyright 2003 (C) SCOPNET All
Rights Reserved
|
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق